وحدها الموسيقى كفيلة بإيصال الرسالة: «أبعدوا جرافات بلدية بيروت عن بقعة الفرح الصامدة في غابة باطون الرميل». صغار وكبار وعجزة، جميعهم كانوا هناك في حديقة اليسوعية المهددة بالزوال، بعدما طرحت بلدية بيروت مشروع إنشاء مرأب للسيارات يتسع لـ٧٥٠ سيارة على الحديقة التاريخية القائمة في منطقة الجعيتاوي – الرميل. سامية حبوش، الموظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية، ناشدت جميع المعنيين عدم إزالة الحديقة؛ لأنها البيت الثاني لعدد كبير من المواطنين، وطالبت بالبحث عن مكان آخر لإقامة مواقف سيارات. دغران غاربتجيان الذي يزور الحديقة يومياً، ناشد الحفاظ على الآثار الموجودة في الحديقة، مطالباً بعدم المسّ بأي غصن أخضر في المكان. جاك خوري لديه طريقته للدفاع عن الحديقة؛ فهو الذي يدفع ضريبة الأرصفة التي تحتلها السيارات، يرفض أن تقتحم السيارات المكان الوحيد الذي بقي له ليقضي مع بقية زملائه ما بقي من خريف العمر.

أما روجر غانم، فيسأل عن مصير الأشجار المعمرة منذ أكثر من مئة عام، التي يستحيل نقلها أو إعادة زرعها. برأيه، إن الحديقة البديلة المقترحة لن تكون سوى عبارة عن أحواض زهور تتطلب الكثير من المياه في زمن الشح في المياه، وبذلك تكون بلدية بيروت قد استبدلت حديقة ذات اكتفاء ذاتي بحديقة اصطناعية غير مستدامة.
الأبنية المحيطة أعلنت موقفها أيضاً، حيث وضع جيران الحديقة على شرفات منازلهم لافتات ضد مشروع موقف السيارات، فيما بدأ «الائتلاف المدني لحماية حديقة اليسوعية» بجمع تواقيع على عريضة تطالب البلدية بالتراجع عن المشروع – الفضيحة !
لم تخلُ مواقف بعض المؤيدين للمشروع والمعارضين له من عنصرية مقيتة! «مَن دفع لكم لتعترضوا على المشروع؟ إنتو مش من الأشرفية أصلاً»، يصرخ رجل خمسيني وإلى جانبه عدد من الشبان بعضلاتهم المفتولة يتهيأون لافتعال عراك مع من جاؤوا من كل لبنان للدفاع عن حديقة اليسوعية. في المقابل، لم يجد العجوز الثمانيني طريقة للرد على أحد المؤيدين للمشروع من سكان المنطقة، إلا من خلال العودة إلى ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية «هيدا من الدامور يرجع لهونيك ما إلو شي بالرميل». لفحات العنصرية التي هبّت في المكان لم تمنع نسمات التضامن التي تناغمت مع أشجار السرو المعمرة المرتفعة أعلى من الأبنية المحيطة بها، مذكرة بأنّ هذه البقعة الخضراء التي وهبها الآباء اليسوعيون لبلدية بيروت، هي أعرق وأقدم من جميع الذين تنطحوا للدفاع عن بناء موقف سيارات على حساب الطبيعة وراحة السكان، والآثار فيها تعود إلى الحقبة البيزنطية. الآثار نفسها لم تسلم من العنصرية؛ فبالنسبة إلى مؤيدي المشروع، هي آثار «استقدمت من منطقة الزهراني، ويجب أن تعود إلى هناك»!
مشهد الاعتصام الذي طغى عليه الطابع المدني لم يخلُ من السياسة. عدد من قيادات إقليم الرميل في حزب الكتائب عبّروا عن تأييدهم لمشروع البلدية، وفي سرهم أنهم بذلك يردون على التيار الوطني الحر الذي نشطت ماكينته الشبابية في التعبئة ضد المشروع. زياد عبس حضر إلى الاعتصام ولم يتحدث إلى الإعلام. اكتفى التيار بممثله في المحلة ريمون السخن للتعبير عن رفض المشروع. لحظات هرج ومرج قبل أن تبادر الناشطة باسكال الشويري بالتأكيد أنّ الاعتصام هو لرفض جرف حديقة اليسوعية تحت أي مبرر، رافضة أن يتحدث أي من السياسيين باسم المجتمع المدني الذي جاء ليقول كلمته والوقوف إلى جانب أبناء الحي الرافضين في غالبيتهم هدم الحديقة، والذين لا يثقون بوعود بلدية بيروت بإعادتها كما كانت؛ لأن هذا الطرح يفتقر بالأساس إلى أي برهان علمي. ولاحقاً كتبت الشويري رسالة للنائب سامي الجميّل، تعبّر فيها عن سخطها من الطريقة التي تصرف بها الكتائبيون الذين حضروا الاعتصام. فردّ الأخير برسالة تؤكد أن هؤلاء لا يعبّرون عن موقف الحزب الرافض لهذا المشروع. ووصف الجميّل خطة بلدية بيروت لإقامة موقف للسيارات بأنها «مجزرة تنفذ ضد جزء من تراثنا»، مشيراً إلى أن الحزب سيقف ضد هذا المشروع وضد مشروع إنشاء الطريق السريع المعروف باسم «محور الحكمة – الترك»، الذي تعتزم البلدية البدء بتنفيذه.
نواب منطقة الأشرفية الذين غابوا عن الاعتصام سيجتمعون اليوم في مكتب النائب ميشال فرعون بوفد من البلدية عند الساعة ١١.٣٠ صباحاً، قبل أن يجتمعوا بممثلين عن منطقة الرميل عند الساعة الواحدة بعد الظهر. وفي معلومات لـ«الأخبار»، رفض «الائتلاف المدني لحماية حديقة اليسوعية» حضور الاجتماع، مؤكداً أنه يعكف على دراسة بدائل للمشروع ومواجهة البلدية بخطة متكاملة للرد على جميع المزاعم التي تطرحها.
وعن هذه البدائل، يشرح عضو الائتلاف رجا نجيم، أنه بُدئ بدراسة خرائط المنطقة لتُقترَح مجموعة من المواقف الصغيرة التي تخدم الأحياء السكنية، بدلاً من موقف تجاري يتوقع أن يسبب ازدحام سير إضافياً ويعطل أي إمكانية للخروج والدخول إلى المنطقة في أوقات الذروة. ويربط نجيم بين مشروع موقف حديقة اليسوعية ومشروع طريق «الحكمة – الترك»، مؤكداً أن هذين المشروعين مرفوضان، والبدائل متوافرة.
واستغرب مسؤول الحملات في جمعية «الخط الأخضر» فضل فقيه، كيف أن البلدية، عوضاً عن استخدام أموال المواطنين «في تحسين ظروف العيش عبر زيادة المساحات الخضراء المفتوحة والعامة، وتحسين ظروف التنقل المديني للمشاة، وتحسين النقل العام، إضافة إلى الحد من الاعتماد على السيارة الخاصة، نجدها تهجم على الحدائق العامة والمساحات الخضراء تحت شعار إنشاء مواقف للسيارات». ورأت رجوة طعمة، من حملة «مشاع»، أنّ «مشكلة الازدحام هي نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة التي اتبعتها الوزارات المعنية على مرّ السنوات، ولا يمكن أن تحلها عشرات أو مئات المواقف، سواء في الجعيتاوي أو غيرها». المهندس جهاد قيامة الذي شارك في صياغة كتاب رفع إلى محافظ بيروت ناصيف قالوش، أكد أن إقامة هذا المشروع ستنجم عنه أزمة بيئية بسبب التلوث المضاعف حجمه وامتداده نتيجة وجود هذا الكمّ الإضافي من السيارات، وستنبعث من الموقف المقترح أطنان إضافية من ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات السامة في موقع جغرافي محصور.
إلى ذلك، يعقد «الائتلاف المدني لحماية حديقة اليسوعية» اجتماعاً عند السادسة من مساء الأربعاء في جمعية «الخط الأخضر» في الصنائع لمناقشة الخطوات اللاحقة.



أخطاء بلدية بيروت

تشكل حديقة اليسوعية مركز انصهار اجتماعي وثقافي، وتمتاز بوجود كثيف للزوار على مدار النهار. وإضافة إلى احتوائها على آثار بيزنطية ومكتبة عامة، تمتاز الحديقة بأشجارها المعمَّرة التي تشكل نظاماً إيكولوجياً متكاملاً تلتجئ إليه الطيور المقيمة والمهاجرة.
تجاهلت بلدية بيروت كلياً ضرورة عرض مشروع إنشاء مرأب للسيارات على أرض الحديقة ومناقشته مسبقاً مع أبناء بيروت، وتحديداً أبناء الأحياء المحيطة بالحديقة. ولم تحصل على إذن مسبق من المديرية العامة للآثار قبل أخذ عيّنات من التربة. وهي تعمدت عدم إطلاع كافة الوزارات المعنية لتبدي رأيها في المشروع، مثل وزارة الزراعة المسؤولة عن حماية الأشجار المعمرة، ووزارة البيئة التي تعنى بأصول تقويم الأثر البيئي لأي مشروع، الذي بات ملزماً منذ ٧ آب ٢٠١٢.