يوم الخميس الماضي كانت المدارس الصينية على موعد مع محاضرة مباشرة ألقاها ثلاثة من رواد الفضاء من على متن المحطة الفضائية «تيانغونغ-1»، وقد حضر 60 مليون طالب في مدارسهم هذه المحاضرة حول قوانين الجاذبية، وتسنّى لمئات منهم في قاعة بيجينغ أن يسألوا الرواد أسئلة مباشرة حول حياتهم في الفضاء.
كان المشهد رائعاً وأتى بعد أيام على تحقيق الصين خطوة تكنولوجية كبيرة بإعلان أن أسرع كمبيوتر خارق في العالم «درب التبانة-2» قد تم إنتاجه من قبل الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع، ويستطيع هذا الحاسوب أن يقوم بـ20 الف مليار عملية حسابية في الثانية، اي أسرع بمرتين من الكمبيوتر الخارق الأميركي «تيتان»، وبهذا تخترق الصين مجالاً كانت الولايات المتحدة الأميركية تتصدّره تاريخياً وهو مجال الاحتساب العلمي.
لكن في اليوم التالي لمحاضرة الفضاء بدأت الأخبار «السيئة» تتوالى حول انخفاض النمو الاقتصادي إلى 7% سنوياً وانخفاض في نمو الصادرات إلى 1%، وبدأت التحليلات حول نهاية النموذج الصيني ووصوله إلى طريق مسدود لا خروج منه إلا باتّباع إصلاحات ليبرالية أساسها تحرير القطاع المالي الصيني وتحرير العملة الصينية وإلى ما هنالك من تدابير أوصلت دولاً أخرى إلى حضيض الأزمات. فتحرير العملة، وهو مطلب أميركي قديم، في ظل انخفاض الين الياباني والإجراءات التي ستتخذها دول صناعية ــ تصديرية مثل كوريا الجنوبية في ردها على هذا الانخفاض، هو إجراء مستحيل الآن، خصوصاً أيضاً أن الطلب العالمي ضعيف بسبب الإجراءات التقشفية الأميركية ودخول اقتصاد منطقة اليورو في الركود للمرة الثانية بعد الأزمة المالية العالمية في 2008. اسباب تراجع النمو الاقتصادي الصيني، بعد وصوله إلى الحد الأقصى (13%) في العام 2007، لا تدعو إلى الإعلان السابق لأوانه عن دخول النموذج الصيني في أزمة كبرى، إذ إن الصين بنموّ 7% تضيف إلى اقتصادها سنوياً اقتصاداً يوازي اقتصاد استراليا، أي 961 مليار دولار! ولا تزال الصين على طريق انتزاع مركز الصدارة في الناتج المحلي من الولايات المتحدة في عام 2017، وهو ما يبعث الخوف في صفوف اليمين الأميركي، لأن الصين تقدم نموذجاً اقتصادياً مختلفاً عن الرأسمالية الأميركية والعالمية يطلق عليه البعض «رأسمالية الدولة»، يقارع الأميركيين في المجالات التي تعودوا أن يكون لديهم شبه احتكار فيها وهي الكفاءة الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي. وقد فنّدت الكاتبة الإيطالية لوريتا نابوليوني هذه الظاهرة في كتابها: «الاقتصاد الماوي: لماذا الشيوعيون الصينيون هم رأسماليون أفضل منّا»، حيث قارنت بين الاقتصاد الصيني الديناميكي المبني على الإنتاج وصنع الثروة وبين الرأسمالية الأميركية والعالمية التي اتّجهت نحو الخدمات والقطاع المالي والمضاربة ما أدى إلى ضعف النمو وضمور الصناعة وشحّ الوظائف وتحوّل جزء كبير من العمالة العالية المهارة إلى اختراع المشتقات المالية وبيعها في اقتصاد يبتعد أكثر فأكثر عن الواقع وعن خلق الثروة الحقيقية التي هي أساس التقدم الاقتصادي كما بيّن آدم سميث في تفريقه بين العمل المنتج والعمل غير المنتج. وقد أدى هذا التحوّل إلى زيادة الشعور بالغربة (alienation) في المجتمعات الرأسمالية الغربية، فمثلاً تنقل نابوليوني عن أحد العاملين في القطاع المالي، والذي تخصّص في بيع «المخاطرة»، قوله: «لو أنني استدنتُ لشراء شبح لكنت شعرتُ أكثر بأني أتعامل في الاقتصاد الحقيقي... (إني أشعر) بعدم ارتياح عندما أعود إلى المنزل... وفي الليل أحلم بإنتاج براغٍ صناعية».
إن النموذج الصيني لا يتحدى الرأسمالية العالمية فقط لأنه اقتصاد ينمو بسرعة غير مسبوقة في التاريخ، ولأن مركز ثقل الصناعة العالمية ينتقل إلى الصين محدثاً تصدعات كبيرة في الاقتصادات المتقدمة، بل لأنه نموذج بديل كاقتصاد سوق اشتراكي يبني القاعدة المادية الاشتراكية عبر تطوير قوى الإنتاج المحرك الرئيسي للتقدم التاريخي. فالرؤية العلمية للتنمية المبني على الماركسية التي أكدها المؤتمر 18 للحزب الشيوعي الصيني في 2012 هي أساسية باتجاه تحقيق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ولكنها أيضاً تشكل رؤية للدول والشعوب حول العالم من أجل تحقيق التنمية الحقيقية والخروج من مرحلة فشل التنمية ومرحلة النيوليبرالية.
لكن التحديات لا تزال كبيرة ومنها مقدرة الاقتصاد الصيني للانتقال إلى اقتصاد يعتمد على الطلب الداخلي الاستهلاكي بشكل أكبر وذلك درءاً لحصول أزمة فائض في تراكم رأس المال التي بدأت ملامحها بالظهور. لكن التحدي الأكبر يبقى في محاربة الفوارق الاجتماعية وأوجه الفساد التي نتجت عن هذا النموذج والتأكيد على مرحليته وتعزيز القيم الاشتراكية داخل الحزب وفي المجتمع وذلك من أجل التحضير الأيديولوجي المستمر للانتقال في المستقبل إلى مجتمع اشتراكي فعلي. فعلى الرغم من أهمية استبدال «توافق واشنطن» بـ«توافق بيجينغ»، إلا أن أحرار وعمال وفقراء العالم يتطلعون إلى الاشتراكية الصينية وليس إلى نموذج من الرأسمالية التسلّطيّة.