روبرت أف. وورث*توجهت بالسيارة إلى «المزة 86» في يوم جمعة هادئ من شهر أيار. وعلى الطريق، أوقفنا جنود شبّان مرّات عدّة للتحقق من أوراقنا بدقة، وكانوا يلوّحون لنا في كلّ مرّة لنكمل سبيلنا.
حين وصلنا إلى وجهتنا، توقفنا في مرأب صغير تحيط به أعمدة من الطوب، وترجلت من السيارة حيث شاهدت جماعةً من الرجال المرهقين في منتصف العمر وهم يحدقون بي.
قال أحد الرجال الذين كانوا يرافقونني: «هم لا يتوقعون رؤية أجانب هنا»، وتابع: «يحاول المتمردون باستمرار قصف هذا المكان لأنهم يعرفون من يسكن هنا». ثمّ أشار إلى سطح منزل متضرر قائلاً: «سقطت قذيفة هاون على مسافة قريبة جداً الليلة الماضية، قتلت سيدة تقيم فوق، وأخرى تحت».
يخيف حيّ «مزة 86» الكثير من السوريين، فهو معقل لجنود النظام والميليشيات التابعة له المعروفة بـ«الشبيحة».


في منزل زوجة «الشهيد»

ذهبت إلى هناك لمقابلة سيدة تدعى ابتسام علي عبود، فرّت من منزلها بعد أن قتل المتمردون زوجها في شباط الماضي، وهو ضابط متقاعد اسمه محسن. تبلغ ابتسام الـ50 من العمر، ولكنها بدت أكبر بعشرين سنة، فقد رُسمت على وجهها خطوط الإرهاق والتعب، فيما ارتدت عباءة الحداد السوداء. كان برفقتها ابنها جعفر الذي يبدو في الـ17 من العمر.
تحدثنا في غرفة فقيرة تحتوي القليل من الأثاث، رفعت فيها صورة لإمام علوي على الحائط. قالت لي ابتسام: «لم نكن نشعر في السابق بأي تفرقة بين الأشخاص من مذاهب مختلفة، والآن هم على استعداد لذبحنا». أخبرتني أن الرجل الذي قتل زوجها هو ميكانيكي سيارات يدعى أيهم، كان يتناول الطعام على مائدتهم، وكان يستدين المال من زوجها من حين إلى آخر، حتى إنه استدان منه المال قبل 10 أيام من مقتله، ووعد بتسديده قريباً.
قالت إن أحداً ما كان يمرر رسائل من تحت باب بيتهم يقول فيها «الموت للعلويين القذرة»، و«ارحلوا من هنا يا شبيحة النظام»، فيما كانت أعمال الخطف والقتل المذهبية تتزايد.
كاد محسن أن يُختطف على أيدي مسلحين في السابق. ولكنه رفض الاستماع إلى تحذيرات زوجته التي قالت له إن أيهم يعمل مع مسلحين سنّة، كان يقول: «أيهم صديقي... هذه سوريا وليست العراق».
وفي إحدى الليالي خرج ليقضي غرض ولم يعد إلى البيت. عُثر على جثته في سيارة العائلة باليوم التالي، وفي رأسه رصاصة. وبعد أيام أحرق مشغل تصليح السيارات الصغير الخاص بالعائلة.
قال جعفر إنه كان في طريق عودته من المشغل نحو البيت حين حاصره خمسة رجال، قالوا له: «سنقطعك إرباً إن لم تغادر، ستلحق بأبيك إلى القبر». وأضافت ابتسام أن العائلة فرّت من منزلها في ضواحي العاصمة إلى حيّ «المزة 86» ليقيموا إلى جانب علويين آخرين، وقالت: «نحن الأشخاص الذين يُستهدَفون، لم يفعل زوجي أي شيء، كان عسكرياً متقاعداً يتطوع في مستشفى». وأوضحت أنها الآن بالكاد تتحمل دفع تكاليف إيجار غرفتين صغيرتين حيث تعيش مع أولادها الأربعة.
اهتزت أكواب القهوة الموضوعة على طاولة في الغرفة التي كنّا نجلس فيها بفعل دويّ المدفعية البعيد، وراح الرجال الذين اصطحبوني إلى هناك، وهم أيضاً من العلويين، يروون قصصاً عن أصدقاء أو أقارب قتلوا أو عن جيران اختطفهم المسلحون.
قال أحدهم: «ستجد قصصاً مماثلةً في كلّ بيت، عن أشخاص خطفوا بسبب مذاهبهم». وتابع: «هم يعتقدون أن كلّ العلويين أثرياء لأننا ننتمي إلى المذهب عينه مثل بشار الأسد، يعتقدون أن باستطاعتنا التحدث إلى الرئيس متى شئنا، ولكن انظر إلينا كيف نعيش!».


دمشق المختلفة

يوم وصلت إلى سوريا في نهاية نيسان، فوجئت كم الحياة تبدو طبيعيةً في العاصمة. كانت الفواكه متوافرةً في الأكشاك والسوق القديم مزدحماً، ولكن الحواجز منتشرة في المكان وكلّ عشر أمتار تقريباً يوقفني عضو في قوات الدفاع الوطني، التي أنشئت حديثاً، يرتدي ثياباً مدنيةً ويطلب منّي بطاقة الهوية.
خلف ضجيج الشوارع الباعثة على الطمأنة، تُسمع أصوات المدفعية صباحاً ومساءً، كرعد متقطع.
لم يعلّق أحد عليها، وتحت شمس الربيع كان من الصعب التخيل أن أناساً يتقاتلون ويموتون على بعد أميال قليلة من هنا.
لم أرَ الحرب إلا بعد أن سلكت الطريق السريع المؤدي إلى شمال دمشق، هناك شاهدت منازل مدمرة باتت ركاماً أو أحرقت لتصير شبه رماد. وحين تجاوزنا ضاحية حرستا التي شهدت على بعض أشرس المعارك، تصاعدت أعمدة دخان كثيفة من مجمّع بيوت على بعد أمتار عدّة. راح سائقي وهو شاب يدعى أحمد ينظر إلى الأمام والخلف، وقاد بسرعة تفوق الـ90 ميلاً في الساعة، ما دفعني إلى التساؤل كيف ستتحمل سيارة الهيونداي القديمة هذه المغامرة. قال أحمد: «هذه المنطقة خطرة جداً... علينا أن نسرع».


في «عاصمة الأقليّات»

بعد تجاوز الضواحي، يوصلك الطريق السريع إلى مدينة حمص التي شهدت بدورها معارك عنيفة، ثمّ إلى الغرب نحو جبال العلويين المشرفة على المتوسط.
تقع اللاذقية، عاصمة المنطقة العلوية في سوريا، على البحر المتوسط وتتمتع بسحر خاص بها.
لطالما وفّرت الجبال المحيطة بالمدينة ملجأً للأقليات السورية، وشكلت لفترة وجيزة جزءاً من دول علوية تحت حماية فرنسية، بعد الحرب العالمية الأولى. منح ذلك سكّانها نظرةً مختلفة للبلاد ولتاريخها، نظرةً نادراً ما سُمح لصحافي أجنبي أن يراها.
في اللاذقية التقيت شابةً مؤيدةً للنظام في الـ27 من العمر تدعى علياء علي، هي ابنة ضابط علوي متقاعد ومعلمة لغة فرنسية. هي ذكية ومدركة بالكامل، ربما بفضل قضائها سنة درست فيها في إنكلترا، كيف ينظر الغرب إلى الصراع.
وعلى عكس الكثير ممن الموالين، كانت علياء مستعدةً للإقرار بالأعمال الوحشية التي ارتكبها الطرف الذي تنتمي إليه، وبدت أحياناً محرجةً من ممارسات الدولة البوليسية في سوريا.
تقول علياء: «كنت أؤيد الثورة في البداية، الكثير من الأمور تحتاج إلى التغيير هنا، أدرك ذلك، ولكنها تحولت إلى مواجهات مذهبية وعنيفة في وقت أبكر ممّا يظنّه كثيرون».
قالت لي إنها كانت على طريق ساحلي في نيسان 2011 حين سمعت أصوات انفجارات وتبادلاً لإطلاق النار استمرّ دقائق. وبعد عودتها إلى بيتها في جبلة، علمت أن تسعة جنود سوريين قتلوا في كمين نصب لهم في مكان قريب من حيث كانت. تقول علياء وأصدقاؤها إن ما يجري ينتمي إلى نمط معين: الإعلام الغربي يرفض الاعتراف بأعمال العنف الذي يمارسه المعارضون، ويتجاهل الخسائر التي تتكبدها الأطراف الحكومية.
في ذلك الربيع، وعلى الرغم من إصرار المعارضين على القيام بتحرك شامل، بدأ الخطاب المذهبي في التسلل. وقد تردد شعار رفعه المتظاهرون: «لا نريد إيران، لا نريد حزب الله، نريد أحداً يخاف الله». قد يبدو هذا الشعار غير مؤذٍ لبعض المراقبين من الخارج، ولكن في داخل سوريا، كانت دعوةً واضحةً للسنّة كي يجتمعوا ضد أعدائهم.
في صيف 2011، انتشرت شائعة غريبة بأنه إن طرق المعارضون على أوان معدنية ورددوا صلاةً معنيةً خلال شهر رمضان، فسيختفي العلويون.
حين زرت منزل علياء، اصطحبتني إلى الشرفة ودلتني على مصطبة منزل مجاور: «هل ترى تلك المصطبة؟ كانوا يطرقون على المعدن في منتصف الليل، وقد استيقظ أبي من سريره صارخاً: اخرسوا! لن نختفي!».
نزلنا بعدها على السلالم حيث أرتني رسم دائرة في داخلها إشارة X على الحائط. قالت: «هذه إشارة كانت تستخدمها المعارضة لتعليم أهدافها، الرجل الذي يقيم هناك شقيق لمسؤول كبير». أخبرني عبد الحميد، أخو علياء الأصغر، عن الصدمة المذهبية التي واجهها أيضاً. هو ملاكم هاوٍ في الـ23 من العمر كان يدرس في مصر في تشرين الثاني الماضي ويقيم مع خمسة أصدقاء سوريين في منزل بالإسكندرية. وفي إحدى الليالي، طرق شاب لهجته عراقية على الباب وسأل إن كان سورياً. أجاب عبد الحميد بنعم، ثمّ غادر العراقي.
في وقت متأخر من تلك الليلة، حاولت مجموعة من الرجال خلع الباب فيما كانوا يطلقون عبارات مذهبية. تمكّن عبد الحميد وأصدقاؤه من صدّ المهاجمين وإبعادهم، ولكن الجزء الأسوأ حصل بعد ذلك. يقول: «بعد بضعة أيام، ظهرت رسالة على فايسبوك تضمّ عنواننا بالتحديد، جاء فيها: هؤلاء الرجال سوريون تموّلهم إيران وحزب الله لنشر التشيّع في مصر وعليكم قتلهم». فترك ثلاثة من الشبّان السوريين دراستهم وعادوا إلى ديارهم.
لم تحاول علياء وأصدقاؤها أن يدّعوا الحياد حتى. لقد غضّوا الطرف عن معظم ما جرى في البلاد بعد بداية التظاهرات: الاعتقالات العشوائية، التوقيفات، التعذيب، مقتل مئات ثمّ آلاف من المتظاهرين السلميين. في حديثي معهم، هزأوا بمصطلح «شبيحة»، وقالوا إنها مجرد أسطورة، وبدوا غير مستعدين للتصديق أن النظام قد يكون مسؤولاً عن الشائعات المذهبية في بداية الاحتجاجات.


علويّو المعارضة

سألت علياء عن رأيها بالعلويين الذين انضموا إلى المعارضة، مثل الروائية سمر يزبك من جبلة. انزعجت لذكر اسم يزبك، وقالت: «التقيت بها مرةً، قالت لي إن مستقبلاً لامعاً ينتظرني، ولكنني لا أرغب في مستقبل مثلها. أعتقد أن العلويين الذين ينضمون إلى المعارضة لا يدركون أنهم يُستخدمون كأدوات. وربما اعتقدوا أنّ بإمكانهم تحويل هذه الحرب الجهادية إلى ثورة ديموقراطية. ولكنهم لن ينجحوا».
في اللاذقية، التقيت برسام كاريكاتور اسمه عصام حسن، أخبرني أن الكثير من العلويين الذين تعاطفوا مع المعارضة في البداية غيروا مواقفهم. وقال: «أدركت الحكومة أنها عاجزة عن مواجهة تظاهرات سلمية، فدفعتها نحو العنف»، ولكن «العنف الذي شاهدناه في جانب المعارضة قد أخاف الجميع. وانظر إلى وسائل الإعلام: تلفزيون الجزيرة والتلفزيون السوري الرسمي يقفان في جانبين مختلفين، لكنّ كليهما يدفع باتجاه الغاية عينها، هما يروجان للكراهية».
ذات ليلة خميس دافئة في دمشق، توجهت إلى نادٍ ليلي اسمه «بار 808»، هو أحد المرابع الأخيرة الباقية ليستمتع بها شباب المدينة. ويتمتع بشعبية في أوساط أولئك الذين يتعاطفون مع المعارضة بهدوء.
مررت بين الحشود فدخلت مكاناً يخفق بشبان وشابات يرقصون ويشربون ويتبادلون القبل. في الداخل، عانقني صديقي خالد وناولني زجاجة بيرة. هو روائي بوهيمي، لديه شعر شائب مجعد ويتمتع بضحكة جشاء.
ولكن السنتين الأخيرتين أظهرتا علامات التقدم في السنّ عليه. تحدثنا عن أصدقاء مشتركين، بات معظمهم اليوم في بيروت وأوروبا.
قال خالد: «لا يمكنني التخلي عن الثورة. لن أترك دمشق». ووضع ذراعه حول امرأة شابة عرّفني إليها قائلاً إن اسمها ريتا.
قالت ريتا: «خالد هو الشخص المتفائل الوحيد الباقي في سوريا». وحين سألتها عن المعارضة، أجابت: «أنا أخجل من قول ذلك، ولكن المعارضة فقدت معناها. اليوم الأمر يتعلق بالقتل فقط، لا شيء إلا القتل. الجهاديون يتحدثون عن إقامة الخلافة والمسيحيون خائفون فعلاً». ساد صمت وجيز قاطعته موسيقى أغنية عربية، ثمّ تابعت: «انتظرت هذه الثورة طوال حياتي، ولكن اليوم أظنّ أنه ربما كان من الأفضل لو لم تأت. ليس بهذه الطريقة على الأقل». وإن كانت المعارضة قد فقدت معناها، فكذلك فعل النظام.
لطالما اعتبرت عائلة الأسد سوريا «قلب العروبة النابض» ورافعة راية القضية الفلسطينية. هدف حزب البعث لتجسيد هذه الروح والأقليات السورية كانت متحمسةً لتظهر ولاءها كعرب في مجتمع ذي أغلبية مسلمة. كان ذلك الغراء الذي ربط المذاهب والملل المختلفة في البلاد.
ولكن سوريا عزلت اليوم رسمياً في الجامعة العربية والأيديولوجيات القديمة التي كانت توحد الشعب، وتردد حتى دون أن تكون نابعةً من القلب، باتت اليوم محط سخرية.
في حيّ جانبي هادئ في واحدة من أغنى ضواحي العاصمة، دعاني محامٍ بارز إلى أن أنضم إليه في مكتبته ذات الكتب الوافرة. كانت الكنبات ريشيةً ناعمةً ووضعت شوكولا أوروبية على الطاولة أمامنا. وظهرت على شاشة كلّ مداخل البيت.
كان الأب الأرثوذكسي السوري غابرييل داوود بردائه الأسود يرتاح على كرسي بين الضيوف. ذكرنا موضوع الأقليات في سوريا، ولكنه أبدى تحفظاً، بقوله إنّ «الأقليات، هذه صفة خاطئة... يجب أن تهمّنا نوعية الناس لا كميتهم. قد تظنّ أن الأقليات صغيرة وضعيفة، ولكننا السكان الأصليون في هذه البلاد»، علّق. وفي ما يتعلق بالمحتجين ومطالبتهم بالحرية، قال الأب داوود ساخراً: «لا يريدون حريةً، يريدون حوريات».
في إحدى الليالي في دمشق، التقيت مهندس كمبيوتر في الـ33 من العمر يدعى أمير، كان يشارك في التظاهرات السلمية منذ البداية. قال: «بدأنا التظاهرات بالاستناد إلى ثلاثة أسس: لا للعنف ولا للتدخل الأجنبي ولا للمذهبية». وتابع بلغة إنكليزية: «استمر النظام في استهداف المحتجين حتى اضطروا إلى التخلّي عن كلّ ذلك».
سألته إن كان لا يزال ناشطاً في الثورة، قال: «وضعوني في السجن ليومين، لم يوجه لي أحد كلمةً سيئةً، ولكن بالنسبة لي كان...»، ضاعت منه الكلمات ثمّ تابع: «هل تعرف كيف ذهب دانتي إلى الجحيم وسمح له بالعودة؟ كانت مساحة تلك الزنزانة 10 أمتار مربعة وفيها 152 شخصاً، تقع في طبقتين تحت الأرض. الهواء خفيف جداً وتشعر بالاختناق على الدوام. كان لديهم نظام غير معلن: في الأسبوع الأول، تقف طوال النهار وطوال الليل»، ثمّ تتمكن من الاستناد تجاه الحائط لعدّة أيام ثمّ يسمح لك بالجلوس. حين تقف، تخشى أن تغفو لأنك حينها قد لا تستيقظ قط. لم يقض البعض إلا ساعات هناك والبعض الآخر أياماً وأسابيع، أمّا آخرون فقد تعرضوا للتعذيب بأساليب لم أكن أتخيلها». وأضاف: «بالنسبة إلى الطعام، تحصل على بعض الخبز والماء، ولكن هذا لا يهم. فأنت تحصل على نحو 30 ثانية في اليوم لتستعمل المرحاض، ولكن ثق بي، ذلك لا يقلقك حتى، كان ثمة أناس هناك يطلبون الموت». توقف عن الكلام وبعدها سألته عن سبب اعتقاله، أجاب: «لقد أضأت شمعةً في مسيرة لذكرى جنازة».
هل كان من الضروري أن يحصل ما حصل؟ قبل نحو عقد تقريباً، الكثير من السوريين الذين يقاتلون اليوم ضد الحكومة، رأوا في بشار الأسد منقذاً ودوداً وشخصاً نبيلاً سيزيل عنهم الوحشية التي كانوا تحت وزرها. لم يكن متوقعاً أن يصبح رئيساً، فأخوه باسل هو من أُعدّ لذلك. ولكن بعد مقتل باسل في حادث سير عام 1994، استدعي بشار، الشاب الغريب والهادئ، إلى سوريا من لندن حيث كان يدرس طبّ العيون.
شكّل لغزاً منذ اليوم الأول لتوليه سدّة الرئاسة عام 2000، بدا رجلاً يرغب في قيادة سوريا بمسار مختلف، لكنه لم يفعل قطّ.
في صباح يوم في بداية أيار، توجهت مع علياء علي وأخيها إلى قرية أجدادهما في دريكيش في الجبال العلوية. توقفنا قليلاً أمام نصب تذكاري أقيم حديثاً لتخليد ذكرى ضحايا الحرب. كان لوحاً رخامياً يرتفع نحو 25 قدماً نقشت عليه مئات الأسماء. أوقفنا السيارة في نهاية شارع ضيق سمّي تيمناً بجدّ علياء وتوجهنا نحو بيت العائلة القديم.
كان عمّ علياء، عامر علي في انتظارنا، كان رجلاً في الخمسينيات من العمر قادنا إلى أعلى السلالم نحو غرفة واسعة تخترقها أشعة الشمس من خلال بابين مفتوحين. هناك كان العشرات في انتظارنا.
جمعهم عامر علي ليحكوا لي عن أقارب أو أزواج وزوجات قتلوا في الحرب. استمعت إليهم واحداً واحداً. كانوا ينتمون إلى الطبقة العاملة: جنود، عمّال بناء، عناصر في الشرطة. وكلّهم من العلويين كما علمت.
أخرج رجل بناء يدعى أديب سليمان هاتفه الخلوي وأراني رسالةً تلقاها بعد أن خطف مسلحون نجله يسار: «نفذنا مشيئة الله وقتلنا ابنك. إن استمررت في القتال مع بشار، فسنأتي إلى بيتك ونقطعك إرباً. إياك ان تقاتل ضدنا».
قال لي شاب في العشرين من العمر أصيب مرتين في رأسه، ما أفقده بعضاً من ذاكرته ونصف سمعه، إنه سيعود إلى جبهة القتال ما إن تلتئم جروحه. حدّق بي والده قائلاً: «سأكون فخوراً إن أصبح ابني شهيداً. لقد تجاوزت الخمسين من العمر، ولكنني جاهز للتضحية بحياتي أيضاً. اعتقدوا أننا سنكون ضعفاء في هذه الأزمة ولكننا أقوياء».
(ترجمة هنادي مزبودي)
* بتصرّف عن «نيويورك تايمز»




رأي مناف طلاس

في نيسان، التقيت بمناف طلاس، واحد من أصدقاء بشار القدامى، وطلبت منه أن يحكي لي عن النزاع من وجهة نظر بشار. كان طلاس الذي شغل والده منصب وزير الدفاع لثلاثة عقود، جنرالاً في الجيش السوري حتى انشقاقه في تموز الماضي. كان يعرف بشار منذ الطفولة وانتمى إلى الدائرة المحيطة به لسنوات.
التقينا في مقهى بباريس بعد ظهر يوم دافئ. كان طلاس الذي يتعرض أحياناً للسخرية بسبب أناقته، يرتدي قميصاً حريرياً أزرق فتحت أزراره حتى الصدر ونظارات شمسية.
قال طلاس إنه في يوم اندلاع الأزمة «اتصل بي بشار وسألني: ما الذي كنت ستفعله؟» كان ذلك في نصف آذار 2011، وكانت مدينة درعا الجنوبية تشهد اضطرابات بعد أن أمر مسؤول الأمن المحلي باعتقال وتعذيب صبية كتبوا شعارات مناوئة للنظام على الجدار. كشف طلاس أنه حثّ الأسد على زيارة درعا شخصياً والأمر بتوقيف مدير الأمن المحلي، وقد نصحته أطراف أخرى بذلك أيضاً بينها تركيا وقطر.
أوضح طلاس أنه استمرّ في حثّ الأسد على إدارة الأزمة عبر الحوار، لا القوة، وبإذن من الأسد، بدأ يلتقي بمجموعات مدنية في البلدات التي اندلعت فيها اضطرابات، أحياناً مع 300 شخصاً. كان يستمع إلى شكواهم ويعدّ لائحةً بالحلول الممكنة لفساد الشرطة المحلية ونقص المياه والكهرباء وغيرها من المشاكل. كان يحدد القادة المحليين الذين يمكن الوثوق بهم ثمّ يرسل لائحةً بالأسماء والمطالب إلى المعنيين لدى بشار. وفي كلّ مرّة كان أولئك القادة يعتقلون.
في النهاية، قال طلاس إنه واجه أفراداً في عائلة مخلوف، أقارب الأسد من جهة والدته، يعتقد أنه من أقرب مستشاريه الآن. أضاف: «كان ثمة خلاف كبير، لقد أرادوا حلّ المشكلة أمنياً، بالطريقة القديمة». قرر الحديث إلى الأسد مباشرةً ولكن صديقه لقديم جعله ينتظر لأسبوعين. وحين التقيا أخيراً، أوضح الأسد أنه لم يعد مهتماً بنصيحة طلاس. «عرف بشار منذ البداية أن هذه ستكون أزمةً كبيرة، لقد قرر اللعب على غرائز الناس».