دمشق | يُسمح للسوري بأن يغيب عن الموت في أوقات الحظ أولاً، ثم بالابتعاد عن أرض المعارك وملعب هوايات القناصين على طرق السفر. يستطيع كل مواطن التوجّه إلى عمله في أي مكان دون قلق، فالأوضاع «تحت السيطرة». هكذا يسخر بعض السوريين كل صباح، غير مكترثين بقذائف الهاون المتساقطة على قلب العاصمة بين حين وآخر. يتقبلون العبوات الناسفة، ويشكرون الله لأنهم «نفدوا» من سيارة انفجرت للتو.
معظم الشركات الخاصة في دمشق أغلقت أو قلّصت نشاطها وعدد موظفيها، بينما مؤسسات الدولة كافة لم تصرف إلا «الفاسدين» حسب تعبيرها، وهنالك آلاف الموظفين في الوزارات والمديريات العامة لبنية الحكومة السورية، ما زالوا يمارسون عملهم في ظل رُهاب الأزمة، بينما يدور في بال بعضهم محاولات عديدة للسفر بعيداً عن الحرب، كأنها إجازة مصيرية أفرجت عنها الدولة أخيراً وسمحت لمن يريد الرحيل بقصد الراحة أو الهجرة، ولكن، ضمن شروط محددة!
أسباب كثيرة تدعوهم إلى السفر، للابتعاد عن صراعات الموت. يروي بعض العاملين في وزارة الإعلام لـ«الأخبار»: «لأننا نعمل مع جريدة حكومية أو تلفزيون رسمي، سوف نعتبر شبيحة، وسوف تقتلنا المعارضة المسلحة ما لم نعلن انشقاقنا عن مؤسساتنا أو تركها». في بداية احتدام الصراع منذ عام تقريباً، لم يمنح أي موظف في مؤسسات الإعلام الرسمي موافقة للسفر إلا بصعوبة، ولكن اليوم يمكن أياً منهم تقديم طلب إجازة لمدير مؤسسته المباشر ليأخذ موافقة فورية في حال لم يكن عليه أي «التباس أمني» متعلق بأحاديث أو انتقادات لا تتوافق مع رأي السلطة. من ناحية أخرى، تجد أن التعيينات الجديدة في وزارة الإعلام في ازدياد، خصوصاً مع مرسوم الرئيس السوري بشار الأسد بتثبيت العاملين الموقتين في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، الذي سيوظف أكثر من ألف عامل. فهذه الخطوة عكست مدى حاجة مئات الموظفين إلى هذا العمل رغم خطورته في الأزمة.
أمّا في وزارة الصحة، فالعين «مفتّحة» جيداً لملاحقة من كانوا يعملون في المستشفيات الميدانية في المناطق الساخنة في الريف الدمشقي، كجوبر وداريا والقابون وحرستا... من أطباء وممرضين، هم مطلوبون للحكومة السورية بوصفهم «دعموا الإرهاب». بعضهم نجح في التواري في الظل، بعد أن ارتفعت وتيرة المعارك هناك. «أعمل في مركز طبي يقع على تخوم مساكن برزة. أنا طبيب أسنان، وكنت أدعم الاحتجاجات السلمية. اليوم قصف بيتي في القابون، وها أنا أستعد للسفر. لم تعترض الحكومة أو النقابة على سفري، لأن عملي معهم حسب عقد سنوي، واعتمادي كان على عيادتي»، يروي إياد علي (اسم مستعار)، الطبيب الذي فقد عيادته وبيته وذكرياته في القابون، واستأجر في إحدى ضواحي دمشق الجبلية، وهو اليوم مشغول بأوراق السفر. «أموره بخير» حسب تعبيره، لأن «دمشق لم تعد تحتمل أن يعاش فيها، وهويتي مكتوب عليها قيد النفوس القابون! أخاف من اعتداء فردي قد يجعل زوجتي وأولادي أيتاماً»، يضيف.
لا تقتصر رحلة الهجرة عن البلاد على بعض الموافقات الأمنية والإدارية المطلوبة، فهنالك سفارات كثيرة أغلقت أبوابها في دمشق، ولم يعد لدى الموظف الذي أقدم على خطوة السفر إلا التوجه إلى بيروت أو عمّان، ولكن الكارثة ليست هنا: «إذا الطبيب موظف أو عندو مشكلة أمنية، ممكن يتعرقل سفرو، بس الأصعب تأمين الفيزا والإقامة بالبلد اللي بدك تسافر إله كطبيب»، تشير الدكتورة إيمان أحمد التي تعمل في مستشفى خاص إلى جانب عيادتها النسائية التي دمّرت في منطقة القاعة جنوب دمشق. بقي لديها عملها الخاص، وفرصة السفر مفتوحة أمامها، لكنها فضّلت البقاء بين طرطوس ودمشق لمساعدة الناس.
عموماً لا تمنح وزارة الداخلية أيّ موافقات، بحسب ما يقال، لموظفيها في السلك الأمني، نظراً إلى حاجتها الماسة إلى عملهم اليوم، ولكن هنالك إجازات تمنح إلى جانب مكافآت للذين يعملون على «خط الموت». على عكس وزارة الثقافة مثلاً، التي أصبحت الموافقة على السفر تصدر من وزيرة الثقافة شخصياً، وإن لم تكن الموافقة مع الموظف حين يمرّ على الحدود، فسوف يعود إلى سوريا دون فائدة. بعض العاملين في وزارة الثقافة أكدوا ذلك، فلا مانع لدى مؤسساتهم إذ أراد أحدهم السفر، لكن عليه أن يتقدم بطلب قانوني مرفق بأسباب السفر ومدة الغياب حسب ما يتفق، وإلا فسوف يفصل من عمله بحكم قانون العمل في مؤسسات الدولة. «لازم ينعرف البلد يلي بدك تسافر عليه، ولازم تظهر الموافقة من مؤسستك لتعبر الحدود... قبل فترة كان بدّا موافقه أمنية، هلّأ بيكتبو بغض النظر عن القرار رقم كذا، منقدم إجازة ولازم توافق عليها الوزارة، ولمرة واحدة عالبلد المطلوب، لأنو على الحدود بيطلبوا موافقة الوظيفة. طبعاً وتحدد المدة إذا شهر، بدون راتب، لأن بالحدود بيضربو عالكمبيوتر إذا موظف بقلك وين موافقة الوظيفة، معممين أسماء الموظفين بالدولة»، يؤكد بعض العاملين في مديرية المسارح ومديرية الثقافة. لكن المخرج المسرحي مأمون الخطيب يرى الموضوع من وجهة نظر مختلفة، لأنه مع دولة فيها قانون واضح لا تمانع في سفر كل من رغب في السفر خارج البلاد، بشرط أن يتبع أسساً قانونية واضحة. ويضيف: «أقصد أن تجد حلاً مثل أن يقدم الراغب في السفر استقالته، ويخلي المكان لمن هو بحاجة إلى الوظيفة، ما دام خيار السفر شخصياً. وفي حال الاضطرار، إيجاد صيغة قانونية محددة وواضحة، كإجازة بلا راتب أو استيداع... ألا نريد دولة فيها قانون؟ أي دولة في العالم تسمح لموظف رسمي بأن يسافر ويترك العمل وتعطيه الراتب؟».
رغم ذلك، فإن نسبة المسافرين من موظفي الدولة الذين يشدون رحالهم إلى الداخل أكثر بكثير من هؤلاء الهاربين من «موت محقق» كما يحلو لهم تسميته، فالذهاب إلى البلدان المجاورة أهون من النزوح من منطقة إلى أخرى داخل الأراضي السورية. ومع زيادة الرواتب التي أقرّت، تجد موظف الدولة أكثر تعلقاً بوظيفته حتى لا يتسول لقمة العيش، كما يحدث في مخيمات النزوح على الحدود أو كما أصاب الموظفين المعارضين الذين اعتبروا هذه المؤسسات ملكاً للموالاة، وراحوا «يحجّون نضالياً في بقاع الأرض بحثاً عن وطن يحترمهم!»، هكذا يصفهم أحد الموظفين الذي وقع تفجير السبع بحرات منذ أشهر قرب مكان عمله ولم يغادره.