ليست المرة الأولى التي يعتدي فيها موكب مسلح لنائب أو وزير على مواطنين ومواطنات عزّل. حدث هذا في مناسبات مختلفة، طمعاً بأفضلية مرور أو من أجل ركن سيارة في موقف غير شرعي أو لمجرد التشبيح والبلطجة. لكن هذه المرة وصل الامر بالنائب الممدّدة ولايته خلافاً للدستور، نديم الجميّل، إلى الاشتباه في أن كاميرات مجموعة من الناشطين والناشطات في مقهى «مجموعة نسوية» كانت تترصد موكبه في منطقة مار مخايل، فقرر ببساطة أن يوقف مواطنين عن الاحتفال بترهيبهم والاعتداء عليهم.
بدأت القصة عند الساعة الحادية عشرة من ليل الجمعة الماضي أثناء حفل وداع تقيمه مجموعة «نسوية» لناشطة قررت الهجرة من لبنان. يقع مقر الجمعية في منطقة مار مخايل، وهو عبارة عن مقهى ثقافي واجتماعي مثّل مساحة لعدد من الانشطة تتمحور حول قضايا العدالة الجندرية ومناهضة العنصرية والكراهية ومناصرة القضايا الاجتماعية. فجأة دخل المقهى رجل بثياب مدنية وصرخ بالحضور «ممنوع التقاط الصور»، وعندما طلب منه التعريف عن نفسه اكتفى بالصراخ «أنا مرافق نائب»، عندها بدأ الحضور، وغالبيتهم من الناشطين/ات في «الحراك المدني للمحاسبة» المعترض على تمديد ولاية المجلس النيابي بالهتاف «برا برا برا، نواب طلعوا برا». انسحب المرافق من المقهى وعاد الى المدخل حاملاً سلاحه الحربي مع عدد آخر من المرافقين، وصوّبوا أسلحتهم باتجاه الحاضرين/ات الذين خرجوا لاستنكار ما حصل. يصرخ أحد الناشطين «شو رح تعمل يعني بدك تقوصنا». أجاب المرافق «مين قلك ما عندي أوامر إني قوصك؟ مفكر ما بقدر قوّص!». حينها بادر أحد النشطاء الى طلب النجدة من القوى الامنية. وأثناء الهرج والمرج التقط مرافق آخر مكنسة موجودة على الارض، وضرب بها أحد الناشطين على رأسه. وبعد وصول القوى الامنية، حصل فصل بين الناشطين والمرافقين، وقامت القوى الامنية باحتجاز الناشطين داخل المقهى لمدة تزيد على ساعتين، قبل أن تحصل على أسماء ستة ناشطين، طالبة منهم الحضور الى مخفر الجميزة السبت صباحاً للاستماع الى أقوالهم.
لم يمض أكثر من ساعة على الحادثة حتى سارع الجميل، الذي تبين أنه كان يتناول العشاء في مطعم، إلى إصدار بيان إعلامي ادّعى فيه أن العناصر المكلفين بحمايته فوجئوا بمجموعة تعتدي على الموكب بالعصي والحجارة والقناني الفارغة. وأضاف بيان الجميل «إنّ تصرفات عبثية ولا مسؤولة كهذه قد تسمح بتسلّل عناصر مدسوسة لتنفيذ مآربها بما لا يتمنّاه أحد».
الخبر الملفّق استدعى تدخل مناصري القوات اللبنانية الذين اعتدوا بالضرب على عدد من الناشطين. حدث ذلك تحت أعين قوى الأمن الداخلي واستخبارات الجيش. وبحسب روايات الشهود، تبين أن المجموعة المعتدية كان يقودها المسؤول الامني في القوات اللبنانية إيلي مشعلاني، وتم التعرف إلى ثلاث آخرين هم جو غانم، باسم شاهين، وميشال راهب، فيما عرف من عناصر أمن الدولة المتورطين في الاعتداء جورج متى ورامي مسعد.
تعاطى عدد من وسائل إعلام 14 آذار مع الحدث بدون أي تدقيق، واتصلت قناة MTV بالجميل الذي تابع شرح الاعتداء مع زيادة «ملح وبهار»، فيما تولّت مي شدياق استكمال حفلة التحريض عبر تغريدة عنصرية على تويتر: «ما بقى في إلا الجميّزة ومار مخايل ليقدّوا مراجل! شو رأيهم يطلعوا يفرعنوا بالرويسات أو بالضاحية!».
لم تمض ساعات الفجر الاولى حتى كانت تفاصيل الحادثة منقولة عبر عشرات شرائط الفيديو التي ضجّت بها المدونات وتويتر وفايسبوك، وموقع الجميل الشخصي الذي قرصن لبعض الوقت. وكلها تُثبت أن مرافقي الجميّل كانوا يتصرفون بطريقة ميليشيوية ويعتدون على الشابات والشبان ويشهرون السلاح في مواجهتهم ويلقّمونه تمهيداً لاستخدامه.
ومع ساعات الصباح، تجمع الناشطون أمام مخفر الجميزة لمتابعة التحقيقات التي تولاها المدعي العام العسكري داني زعني. حضر الى المخفر كل من فرح سلكا، ندين معوض، كلود جبر، الياس ابو مراد، جورج يونس، ورامي عيناتي، يرافقهم المحاميان نزار صاغية ونادين موسى. كذلك حضر باتريك أبو سلوم الذي تم الاعتداء عليه بالضرب، طالباً مع اثنين آخرين معاينته من قبل طبيب شرعي، وأفاد بأن لديه شريط فيديو يثبت الوقائع.
اعتقد الناشطون أن القضاء كفيل بتحقيق العدالة في وجه زعامة سلطوية محوّرة للحقائق، لكن القاضي زعني تعاطى مع القضية بمنطق «ذكوري ترهيبي»، بحسب وصف الناشطة ندين معوض، إذ طلب زعني إخلاء سبيلها مع سلكا مبقياً الناشطين الذكور المعتدى عليهم في الحجز! «رفضت الامر وحاولت أن أبقى في المخفر أو أن نخرج جميعاً، لكن الدرك منعنا».
تصرف زعني فجّر غضباً واسعاً في شارع الجميزة، ولا سيما بعدما أمر زعني بإخلاء سبيل أبرز المعتدين وهو رامي مسعد، فيما المعتدى عليهم يخضعون لتحقيقات ترهيبية بغية دفعهم إلى التنازل عن حقوقهم بملاحقة مرافقي الجميّل. افترش عدد من الناشطين والناشطات الأرض، مانعين مسعد من مغادرة المكان، لكن الأخير هجم بسيارته مخترقاً الحاجز البشري، ومسبّباً بجرح الزميلة نضال أيوب. وترجّل لاحقاً على مسافة قريبة شاهراً سلاحه الحربي في وجه الناشطين والناشطات الذين ركضوا خلف السيارة. جريمة «اضرب واهرب» التي تناقلتها أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي فاقمت من أزمة الجميّل أمام الرأي العام ووضعت القاضي في قفص الاتهام، وسرعان ما أعيد مسعد الى مخفر الجميزة، في مقابل تلقّي مجموعة نسوية اتصالات تهدئة من حزب الكتائب تعرض مقايضة إطلاق سراح الناشطين وطيّ الملف!
يستغرب المحامي صاغية كيف أن القاضي تجاهل مواجهة طرفي النزاع في القضية رغم أن هناك تناقضاً في الاقوال، خلافاً لما يجري في حالات مماثلة، عدا عن أن إشارة التوقيف التي أعطاها القاضي قد ميزت على أساس الجنس، فتم ترك السيدتين المستدعيتين، فيما أوقف الشاب الذي جاء من تلقاء نفسه لعرض كدماته مرفقة بالصوت والصورة عن الاعتداء. فحصل أن أوقف هؤلاء لا لسبب إلا لأنهم اعتُدي عليهم. في المقابل، أعطى زعني إشارة بترك المرافقين أحراراً رغم ما يمثلونه من خطورة على السلامة العامة، وأرجأ طلب استحضار طبيب شرعي حتى الخامسة مساءً، أي بعد ثلاث ساعات من التوقيف، وهو أمر لم يحصل قط. وهو بذلك تصرف على نحو يعطي صدقية للخبر الكاذب الذي بثّه الجميّل، ويوجه رسالة الى المواطنين مفادها أن أقوال الزعامات هي وحدها الحقيقة، حتى ولو كان من المحال تصديقها، فيما أقوالهم تبقى أوهاماً ومجرد مزاعم حتى لو دُعمت بالصوت والصورة، بل حتى لو حصلت بحضور عناصر الأمن وأمام أعينهم».
وأضاف صاغية «أصررنا على أن يأخذ القانون مجراه، وطالبنا بتنحّي القاضي زعني عن القضية، لأنه أثبت انحيازاً واضحاً لمصلحة المعتدي الذي عاد وبرهن عن تصرفاته الميليشيوية أمام المخفر، وارتكب محاولة قتل متعمد، غير عابئ بصراخ سكان الحي الذين رأوا ما حصل».
انفضّ النزاع على إطلاق سراح الناشطين ومرافقي الجميل على ذمة التحقيق، في حين قررت «نسوية» تنظيم اعتصام أمام قصر العدل عند السادسة من مساء اليوم، للمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن اعتداء مار مخايل، وطلب تنحّي القاضي زعني عن القضية وإحالته على التفتيش القضائي.


https://www.facebook.com/photo.php?v=488983127842728