اسمه شوقي. لم يعد مهماً التفصيل الباقي. المهم ما صار عليه هذا الشاب، الذي بلغ ثلاثينه، بعدما رأى والده معلّقاً في السماء. قبل عشر سنوات، دوزن شوقي حياته على أساس راتب كان يتقاضاه من عمله في أحد المطاعم الكبرى في طرابلس. من الراتب المعقول بنى غرفة إضافية لغرفة العائلة وسدّ حاجات لم يكن الوالد ليسدّها من عمله المياوم في مؤسسة كهرباء لبنان. مضى الوقت رتيباً. مات الوالد على عمود كهرباء، وانقلبت حياة الشاب. أغّروه بوظيفة «المياوم» التي كان يشغلها والده، مع الوعد بتحسين وضعه، وصار مسؤولاً عن والدة و8 أشقاء وزوجة وطفل.
مرت سنوات عشر، وبقي كل شيء مبرمجاً على «اليومية». الأكل. الشرب. الطبابة. كل شيء. إلى أن بدأ اعتصام الـ94 يوماً الذي نفذه عمال غبّ الطلب (المياومون) وجباة الإكراء لتحسين وضعهم، والذي انتهى بتسوية اتفاق سياسي قضى بفرز عمال دائرتي التوزيع في بيروت وجبل لبنان والمناطق إلى شركات خاصة، أو ما اصطلح على تسميتها شركات مقدمي الخدمات لمؤسسة كهرباء لبنان، مع إبقاء الباب مفتوحاً لتطبيق بنود الاتفاق الأخرى. يومها، فرز شوقي إلى شركة «بيوتك». لم يغيّر هذا الفرز شيئاً. بقي مياوماً بلا حماية أو ضمان. مع ذلك، عوّل شوقي وغيره من المفروزين إلى شركات مقدمي الخدمات، ومن بقوا في المؤسسة عاملين لمصلحة المتعهدين، على القانون المقترح بصيغة المعجل المكرر والرامي إلى «ملء المراكز الشاغرة في مؤسسة كهرباء لبنان من طريق مباراة محصورة بالعمال غب الطلب وجباة الإكراء». في البال أن هذا الاقتراح سيدخلهم إلى ملاك مؤسسة كهرباء لبنان، لولا تفصيل أُضيف ليقلب الأمور رأساً على عقب.
كيف بدأت القصة إذاً؟ قبل أربعة أيام، سُرّبت إلى لجنة متابعة العمال المياومين وجباة الإكراء نسخة عن اقتراح القانون الرامي إلى ملء الشواغر، الذي من المفترض أن يكون مدرجاً على جلسة مجلس النواب اليوم، فيما لو اكتمل نصابها. في التسريبة، اكتشف العمال ظلمهم في بندي القانون المقترح الذي أتى مغايراً للسابق الذي كان قد توقف في الهيئة العامة للمجلس. بندان «يغيران» على مطلبين كانا أساس الاعتصام الذي انتهى بالاتفاق السياسي. الأول، وهو الذي يجيز «للمؤسسة ملء المراكز الشاغرة في ملاكها بحسب حاجاتها من طريق مباراة محصورة يجريها مجلس الخدمة المدنية وفقاً للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء». وفي هذا البند «تقع المجزرة الأولى بحق العمال»، يقول رئيس لجنة المتابعة لبنان مخول. مجزرة من فرعين: أولهما عبارة المراكز الشاغرة في الملاك. فبعد خروج نحو 2000 مياوم في مديريتي التوزيع في بيروت وجبل لبنان إلى كنف الشركات الخاصة لم تعد موجودة بعدد كاف. وبهذا، قد «تكون حاجة المؤسسة ملء الشواغر الباقية بعد فصل المديريتين، التي لا تتعدى في أحسن الأحوال 1000 مركز شاغر»، يقول أحد المتابعين للملف والناشطين في اعتصام الـ 94 يوماً. علماً بأنه جرى «ملء شواغر الفئة الثالثة، وهذا إن كان يعني شيئاً فهو يعني خفض المراكز الشاغرة أرقاماً إضافية»، يتابع جاد رمح، العامل المفروز إلى شركة ترايكوم. بعملية حسابية بسيطة، وقبل التلزيم، كان عدد الشواغر 3235. أما الآن، فبعد الفرز وخروج البعض إلى التقاعد وملء شواغر الفئة الثالثة، صار العدد نحو 950. ولذلك، فالمطلوب هنا هو إعادة ما كان قد تم في اتفاق القوى السياسية سابقاً من التشديد على ملء الشواغر في المؤسسة «بما فيها شواغر مديريتي التوزيع في بيروت وجبل لبنان».
أما الفرع الآخر من «المجزرة»، فيتعلّق بالمباراة المحصورة نفسها. ففي مقارنة مع الاتفاق السياسي الأول، كان يجب مراعاة «عاملي سنوات الخدمة للمياومين وسنوات الخبرة أيضاً» في إجراء المباراة، يقول مخول. أما البند الحالي، فأزال الشرطين وأبقى الأمور «محصورة بالقوانين والأنظمة المرعية الإجراء». وعلى هذا الأساس، يرسم المياومون مستقبلهم في ظل هذا البند الكفيل «بألّا يعبر أحد من المياومين في امتحانات يحدد موادها مجلس الخدمة، التي نعرف أننا سنرسب فيها، يعني اللي آكل الكتب أكل، متل اللي تارك الصف من 30 سنة»، يضيف مخول. والأمثلة كثيرة؛ «ففي آخر مباراة أجريت عبر مجلس الخدمة المدنية، اشترك عشرات المياومين، ولم ينجح أحد منهم». وعلى أساس هذا التخمين، فالكل راسب. وهنا، تقع المجزرة التي تتجلى في البند السابع، الساقط على القانون من خارج الاتفاق المسبق، وهو «الذي يستثني من حق التعويض العمال غب الطلب وجباة الإكراء (…) الراسبين الذين استُخدموا لدى الشركات العاملة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان». هنا، الكارثة الكبرى التي «ستحرمنا تعويضات السنوات التي خدمناها في المؤسسة ما قبل فرزنا إلى الشركات الخاصة، إضافة إلى خسارتنا تعويضات الشركة الخاصة».
فمن المسؤول عن كل هذا؟ ولما استحال الاتفاق السياسي الذي أنهى اعتصام المياومين بآخر لم يكن ليعرفوا به لولا التسريبة؟ ثمة من يقول إن ما حصل كان «غلطة شاطر». وغلطة الشاطر هذه هي غلطة المياومين أنفسهم «الذين أغرتهم المراكز في الشركات الخاصة، حيث فوجئوا بمعاش شهري وضمان ومنح مدارس». وهنا، يقع «التباين» بين المياومين الذين بدأوا بتقاذف المسؤوليات التي أدت إلى الخلل في ما بينهم. ثمة رأي آخر يرمي المسؤولية على طرفين، أولهما «الاتحاد العمالي العام الذي خان مطالب العمال من خلال صوغ اتفاق سياسي غير منصف» وذكاء «القوى السياسية التي كتبت وتلك التي وقعت» وحكاية الفرز «التي صارت طائفية، حتى نسي الشغيلة مطالبهم، وهذا ما راهنت عليه القوى السياسية عندما فرزتهم إلى المؤسسات ورتبت أوضاعهم، ووضعوا البقية أمام مسألة سحب الثقة من بعض أعضاء اللجنة»، بحسب ما يقول رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبد الله. سيناريوات كثيرة أوصلت إلى مكان واحد: اتفاق أعاد المياومين إلى النقطة الصفر. مياومون بلا حقوق وبلا ضمانات في مؤسسات خاصة لم تقرر الدولة استمراريتها أو عدمه. مع ذلك، يعوّل البعض على «الوعود» المسربة من بعض النواب بفتح النقاش حول بنود القانون المقترح. لكن، ماذا لو أقرّ القانون بصيغته المطروحة حالياً؟ ثمة «سيناريوان» هنا، أولهما ما توعّد به المجتمعون أول من أمس في حركتهم الاحتجاجية أمام مدخل المؤسسة من تصعيد التحركات «التي قد تصل إلى إقفال المؤسسة أمام العاملين والمواطنين»، وثانيهما سيناريو «البوعزيزي»، وقد بات هذا الأخير جاهزاً واسمه حسين علام.