إذا أُريد لبلدنا أن يبدأ بأن يصبح دولة فلا بدّ له من حكم فاشستي. ماذا أقصد بفاشستي؟ أقصد بشير الجميّل سابقاً وميشال عون لاحقاً. بلدٌ سائب كلبنان لا يقوّمه غير دكتاتور. لا نخف من الدكتاتوريّة. يذهب الدكتاتور وتعود الفوضى التي نسمّيها حريّة، لكنّه يكون قد أرسى أسس دولة وضبط الموظفين مدّة من الزمن.بالانتظار لا حقيقة في لبنان. لأنّه لا حريّة في لبنان. هناك حريّة أن يشتم الواحد الآخر ولكن ليس هناك حريّة أن يشتم الواحد نفسه وحزبه وزعيمه.
الدكتاتوريّة لن تأتينا بالحريّة لكنّها ستعرّفنا على قيمتها تحت سلطة الدولة وليس في شوارع الزعران.
والدكتاتوريّة تبني دولة، ونحن اللبنانيّين بحاجة إلى دولة، إلى جيش دولة ودرك دولة وموظفي دولة، لا إلى فاشلين يستمدّون وجودهم من طوائفهم. والدكتاتوريّة في لبنان لا تدوم إلّا بدوام صاحبها، وبعده الطوفان، أو حاكم ذكي يستغلّ ما بناه سابقه ليكمل البناء عليه.
ولن يكون هناك ضرورة للطغيان. لقد بنى الطغيان الدولة في فرنسا، وجاء نابوليون بعد الثورة يصادر الطغيان ولكنّه يعزّز ويكمل بناء الدولة. ولمّا مات عادت الملكية ولكن دامت الدولة ومؤسّساتها إلى الآن.

■ ■ ■


بالانتظار. لا حقيقة في لبنان. الحقائق تنبلج في محيطٍ لا يقتلك اذا هاجمته. نحن كميّة كبيرة من الضحايا ومجموعة من القَتَلة وجيش من الموظفين الخاسرين والمواطنين الساعين إلى الفساد. حتّى أرقاهم لم تعد تثق بهم. لقد نخرنا الفساد نخراً.
وحبّ الظهور والوجاهة والسلطة.
ليس مثل الطاغية مَن «يربّي» الطفيليّات.
لو عاش الجميل ثلاث سنوات لكفى. ويجب أن يكون أوّلاً طاغية أخلاقيّة، فالبلد غارق في انعدام القيم. ما نأكله فاسد وما نقرأه كاذب ونكاد لا نتعامل إلّا بالتزوير والتهريب والدعارة.
وأوّل مَن يجب أن يُطردوا من الهيكل هم النوّاب والوزراء والوكلاء.

■ ■ ■


لم يعد فيَّ حيّاً غير القلم.
ولكن لماذا؟
لأكون بين شهود الزور؟
هذا ليس لبنان. وإذا قيل لي طول عمره هكذا، فإنّ القائلين يقصدون السرقة والنصب وأنا أقصد الحريّة.
كلّ الدول طول عمرها هكذا، لكنّنا في لبنان كنّا قد بلغنا بحريّة التعبير أقصى الدرجات. وكان هذا شذوذاً جميلاً.
حتّى بعدما دخل العامل الفلسطيني في النزاع.
ماذا أفسَدَنا؟ المال والخوف.
واليوم تتكرّر المهزلة. الشيعي يظنّ نفسه حرّاً لأنّه يقول ما يريده محيطه وطائفته و«حزب الله» ونبيه برّي، والسنيّ يظنّ نفسه حرّاً لأنّه يقول ما يريده الحريري والسنيورة والسعودية وقطر.
أمّا المسيحي فيعرف أنّه خارج الموضوع لأنّه ملحق، ينافق لهذا وينافق لذاك، وإذا قال البطريرك كلاماً صادقاً ضدّ 8 و14 آذار يقطعون له البثّ. فمَن هو بطريرك ماروني في لبنان سنّي _ شيعي؟

■ ■ ■


حيث تنعدم الحقيقة ينعدم الكِبَر. وحين لا يضيف الكاتب إليك شيئاً لا يكون غير مسكين.
نحن في لبنان منذ سنين صغار. متراسان: 8 آذار و14 آذار، وكلاهما يكذب على نفسه وعلى جمهوره. ولهذا الانحطاط سببان: استقطاب جمهور لا يريد الحقيقة بل الغريزة والتعصّب، وشراء الذمم من المحيط إلى الخليج.
لا حقيقة عند أحد بذاته، الحقيقة فوق الجميع، فوق جميع اللبنانيّين، ولا يستطيع أن يجد أثراً لها إلّا مَن يصغي للأولاد بين أربعة جدران بيوتهم، وللأرامل، وللمحكومين بأمراضٍ لا شفاء منها. الموت صديق الحقيقة الأكبر، بعد الطفولة، في لبنان.
لم يسبق للبنانيّين أن تَمَقْطَعَ بهم أحد كما هو حاصل. أشكالهم مخيفة، يزيدها إرعاباً مدى ارتياح أصحابها إلى وضعهم. الصحي والوزني والعقلي. كيف يسعهم الكرسي لا أدري. كيف تسعهم ملابسهم، زوجاتهم، أولادهم. كيف تسعهم جثث قتلاهم. أكاذيبهم. يجب تطهير الشاشات كلّ يوم بالمبيدات. إرهابٌ مكبِّل للعقول جعل أكبر رأس أصغر من كَرَزَة. حريّة التعبير؟ حريّة التعبير عن التبعيّة. حريّة التعبير عن الانصياع الجبان لإرهاب 8 آذار ورشاوى 14 آذار المفعمة بالروائح. ورشاوى 8 آذار ولن أقول إرهاب 8 فـ14 هو مشتل القتلى في هذه الحرب.
لا أحبّ ما لا يقبل النقاش. لا أحبّ الحديديّين. أفضّل الرخوين. الرخو يكرهك كما يكره فؤاد السنيورة لكنّه لا يقتلك. الحديدي يصبح في نظر محيطه مقدّساً، وهكذا يحقّ له ما لا يحقّ لأحد. وهو على كل حال لا ينتظر رأي محيطه ليقرّر ماذا يفعل. لقد انتزع هذا الحقّ من السماء.
أعرف أنّي أكتب في جريدة 8 آذار، جريدة الممانعة والمواجهة. لكنّي لستُ بحاجة لمَن يعلّمني لا ممانعة ولا مواجهة، فأنا لهما معظم الأحيان، ولكنّ الممانعة والمواجهة ضدّ كلّ مَن يقمع حريّتي ويحكمني ويرهبني بالدين والسلاح والعدد ومصادرة الحقيقة.
أعرف، لكنّي أطمع بجنون صاحب الجريدة أن يستوعب جنوني.
ليس كلامي انحيازاً لـ14 آذار. لو أردتُ الثراء لبقيت حيث كنت وحيث لم يطردني أحد بل استَقَلْت بعد 47 سنة رفضاً لتمجيد أميركا في غزوها بغداد ولأمور أخرى لا يليق بأعزّاء أن أفتح دفاترها. أنا ضدّ 14 آذار لأنّ وطنيّتها مأجورة ومطهّمة بالانتهازيّة وضدّ 8 آذار لأنّها ستالين + هتلر.
وتفتقر إلى روح البطولة المجانيّة التي ينبغي لكلّ مقاومة أو معارضة أن تتحلّى بها. وأنا ضدّ 8 لأنّها أساساً لم تقدّم نفسها إلّا صديقة للجيش السوري والاستخبارات السوريّة التي لم تترك حجراً على حجر. ثم تبيّن أنّ وراء «الصداقة» السوريّة رباط «ممانعة» يشدّ 8 آذار إلى إيران. هذا الخلط الطائفي المذهبي وآن الأوان للقول إنّه خَلْط. لا على ألسنة جماعة الحريري وحدهم فهؤلاء طائفيّون مذهبيّون لا يتمتّعون بالمصداقية. بل على ألسنة تظاهرة شعبيّة عامة شاملة تلتفّ حول تمثال الشهداء كما في 14 آذار الأوّل ويركض إليها الصغير قبل الكبير. إذا لم نفعل ذلك فنحن نحفر سجننا بأيدينا ثم قبرنا إن شاء الله.

■ ■ ■


مع ذلك نحاول أن نستخلص فكرة لقدّام. ننظر فنرى وسط كل هذا الركام فجوة فارغة تصرخ: «بالله عليكم املأوني... أنا الدولة!».

■ ■ ■


لا أحبّ أحداً من زعماء البلد. وعلى رأس مَن لا أحبّهم نبيه بري وسمير جعجع وميشال عون. وعلى رأس مَن أخافهم ولا أحبّهم حسن نصر الله. أنا ممّن يبكون أمام الأفلام وعند المطالعة. إذا أحصينا أمثالي في لبنان (من غير الأولاد والنساء) لوجدنا معظم الآخرين وحوشاً. لا أحد يبالي، لون العلم الوطني هو الاستسلام. شعبٌ يرضى بأن تكون في كلّ الأماكن «الاستراتيجيّة» ثكنة لأحزاب ومنظّمات تعمل بالأجرة وتقتل على كيفها ولا يجرؤ أحد على مساءلتها، هو شعب خاضع وخامل وبلا وطنيّة. لا أحبّ أحداً من زعماء خيمة كراكوز هذه لكنّي لا أحبّ هذا الشعب. لا أحد يوحي الاحترام. يولد اللبناني وعلى جبينه صلاة الربح أو رثاء الخسارة، أمّه ترضعه لكي يكبر ويصبح صاحب مدخول وأبوه يرسله إلى المدرسة ليتفوّق غداً على سائر اللصوص. لا أعتذر من الشعب على هذه البهدلة ولا أعتذر من أحد، لا سيما الزعماء. يجب أن يعتذروا هم منّي ومن كلّ فقير ومريض ومعاق، من كل شريف لم تحلم هذه الأرض بأن يدوس أرضها.
ما من حبّ صادق هنا غير حبّهم. يحبّك الطفل وهو ينظر إليك من على كتف أبيه ويبتسم لك دون أن يعرفك. أسفي عليك أيّها الملاك من العمر الذي يتربّص بك. من الجرائد والتلفزيونات. من الأيدي القذرة. أسفي عليك من أهلك وجيرانك ومعلّميك ورفاقك.
لو خلقت في الاتحاد السوفياتي لقتلتني الشرطة السريّة. في الصين لقتلني تشابه الصينيّين. في فرنسا لعشتُ ألف سنة. في بلدي سيقتلني أحبّائي وأصدقائي وزملائي وذكرياتي. وأطبّائي؟
عندي ثقة تامّة بهم شرط أن يفوا بوعدهم ويتركوني أموت بجرعةٍ زائدة من المورفين.



ديغول ومرسي

رفع الجنرال ديغول فرنسا إلى مرتبة الدولة العظمى، وحرّر الجزائر، وأجرى إصلاحات في الجمهورية جعلها مختلفة كثيراً عن التي قبلها. ووقف في وجه أميركا وحلف الأطلسي كأنّه وحده قارّة. وفي أيار 1968 ثار عليه حفنة من الطلاب يتزعّمهم ويحرّضهم يهود أشهرهم الألماني دانيال كوهن بندت واستغلّ السياسيّون وعلى رأسهم ميتران هذا الحادث ليؤجّجوا الغليان ضدّ ديغول.
بعد أشهر من ذلك طرح ديغول على الجمهور مشروع إصلاح للأقلام وتطوير لمجلس الشيوخ، ولمّا رفُض المشروع استقال فوراً.
تذكّرتُ هذا لمناسبة انعدام الشهامة عند الحكّام العرب. هوذا بشّار الأسد لا يصدّق أنّه يفعل ما يفعل، وهوذا محمد مرسي يتشبّث بالكرسي تشبّث القاتل بالضحيّة. مصر يا مصر. أسوأ من شراهة مرسي تفاهة خطابه الفاشل يوم الأربعاء. هل يعتقد هذا الرجل أنّ هناك أحداً في العالم يحترم تغريز أسنانه بالسلطة رغم إجماع زعماء الشعب الحقيقيّين على ترحيله؟
حقن الله دماء المصريّين.