الدوحة | لم يصب مشهد انهيار سلطة الإخوان المسلمين في مصر أنصارها في ميادين المحروسة فقط، بل شكّل صدمة في قلب قطر هزّت أركان الحكم فيها وهدمت الجسور السياسية التي كانت تبنيها لمدّ مجدها ونفوذها على أرض الفراعنة وعلى القرار العربي، وخصوصاً أن هذا التطور جاء بعد أيام قليلة من انتقال الحكم في الإمارة الخليجية. كانت قطر الأم التي أرضعت المجموعات الإسلامية من حليبها، وأنفقت المليارات لتنصيب الإسلاميين في السلطة، وعلى رأسهم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وها هي تخسره بغمضة عين وتكون فاتحة الانتكاسات والتراجع للدور القطري في عهد الأمير الجديد تميم بن حمد آل ثاني. الواضح أن السعودية غلبت قطر على الحلبة المصرية، أو هكذا شعر قادتها، ما يعود بالصراع بين المملكة والمشيخة إلى المربع الأول لمصلحة الشقيقة الأكبر. يمكن تلمّس ذلك من الصمت الرسمي القطري إزاء الأحداث في مصر بخلاف ما كان يحصل في زمن رئيس الوزراء المستقيل حمد بن جاسم، وارتباك الصحافة القطرية في التعاطي مع ما يجري على الأرض من تغييرات، فيما لم يتوقف صحافيوها وإعلاميوها عن اللطم والندب على إطاحة «ديموقراطية» مرسي.
في المقابل، كانت التهنئة «صاروخية» من الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، الذي لم ينتظر أن ينهي قائد القوات المسلحة المصرية سرد بيان عزل الرئيس عن الحكم، حتى سارع ليبارك الجيش ويهنئه على «تحقيق إرادة الشعب».
وها هم رجالات قطر، الذين قبضوا لعام كامل على «أم الدنيا»، ملاحقون ومطلوبون بعد أن أمرت نيابة جنوب القاهرة بضبط وإحضار مرشد جماعة الإخوان محمد بديع، ونائبه خيرت الشاطر، وأعضاء مكتب الإرشاد، لاتهامهم بالتحريض على قتل المتظاهرين ونشر الفتنة الطائفية خلال التظاهرات السلمية، التي شهدتها البلاد.
وكان تميم قد تدارك ذلك في خطابه الأول بعد تسلمه مقاليد الحكم، فأكد «أن بلاده ترفض الطائفية في العالم العربي، وهي لا تُحسب على تيار سياسي ضد آخر». حسناً كيف يترجم ذلك على أرض الواقع؟
هل يخلع الأمير الشاب عنه رداء «أمير الربيع الإسلامي» الذي ورثه عن والده بعدما تحول خريفاً، فيجري المراجعة الحكيمة لتعاطي قطر مع كافة ملفات المنطقة وإدارتها للعلاقات مع الإسلاميين الذين يخرجون عن السيطرة إذا عصوا؟
وهل يتخلى عن السياسة الانتحارية بدعم التغلغل الديني الأصولي والوهابي والقرضاوي (نسبة إلى الداعية المصري الحاصل على الجنسية القطرية يوسف القرضاوي) في مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في دول «الربيع العربي» في تونس وليبيا ومصر وسوريا، لمصلحة دعم الكيانات، التي تبتغيها إرادة شعوب هذه الدول بخلاف تجميلها وتزويرها من على شاشة قناة الجزيرة؟ ولا سيما أن تميم أكد أن «قطر انحازت إلى قضايا الشعوب العربية وتطلعاتها للعيش بحرية وكرامة بعيداً عن الفساد والاستبداد»، مستعيداً جملة لأسلافه، أن «قطر ستبقى كعبة المضيوم (المظلوم)».
تعقيباً على الحدث المصري الذي شكّل صفعة قوية لمسار الحكم في قطر خلال السنتين الأخيرتين، وفي كلام لمصدر مسؤول في وزارة الخارجية نشرته وكالة الأنباء القطرية أول من أمس ظهرت حكومة قطر وكأنها تتعامل بواقعية، وأكدت وجوب اللحمة الوطنية وتحقيق أهداف 25 يناير، وإشادتها بالجيش لحماية مصر.
يرى صحافي قطري أن في البيان «من الحكمة والروية التي سترسم معالم سياسة الأمير الجديد مع الملفات العربية والدولية»، وذلك من دون الانفصال والقطع مع الماضي القريب في ما يتعلق بملفات أساسية وهي العلاقة مع أميركا وإسرائيل.
ثمة أصوات بين القيادات الجديدة والحكومة الجدية التي شكلها الأمير الجديد، ترى أنّ من الحكمة اتخاذ سياسة الحياد أو الإصلاح بشأن الأزمات السياسية الداخلية للدول الأخرى ودول الجوار. أمّا أداء الرئيس المعزول محمد مرسي والإخوان المسلمين البائس، فقد قوض صورة الإسلاميين ومركزهم وخطابهم في شتى أنحاء المنطقة في مصر وفي الأردن وفلسطين وسوريا وتونس.
لقد انكشف عري المشروع السياسي الذي يتستر بستار الدين، وهذا اللبوس سيكون سيئاً على المستقبل السياسي للأمير القطري الابن الذي لن يكون بمقدوره النجاة إذا استمر في مد يد العون للإسلاميين الساعين إلى السيطرة على السلطة في المنطقة.
يردد البعض أن الأمير الجديد قد يبدأ تدريجياً بالعمل على فض العلاقة مع منهج وزير الخارجية السابق «الانتحاري» و«التصادمي»، وسيعمل على ضبط إيقاع الاستثمارات الخارجية وإبعادها عن الملفات السياسية الغامضة، وكذلك إبعادها عن الطابع الارتجالي والاستعراضي لبعض الاستثمارات في الدول الغربية، وخاصة فرنسا وبريطانيا، والتي لم تنجز من دون وجود مخالفات كبيرة.
ويذهب محللون إلى أن الشيخ تميم سيحاول الاسترشاد بتجربة الإمارات ومنافستها في استقطاب الاستثمارات الخارجية والسياحة العالمية.
وفي رأي مراقبين، أنه «بعد سقوط رئيس وزراء قطر الشيخ حمد، وفي ذات الوقت رئيس اللجنة التي تشرف على الوضع السوري، فإنه في ظل الأمير تميم تغيرت سياسة قطر؛ ففي قطر اليوم من يعلم أن التهديد الذي باتت تشكله الحرب في سوريا تخطّى واقع اقتصاره على الداخل السوري إلى واقع تشكيله تهديداً وجودياً وحقيقياً لعدد من دول المنطقة».
هذه القناعة بدأت تترسخ في تفكير الإدارة الأميركية والهيئات الأوروبية المعنية، بحيث فرضت مسارين مهمين أحدهما يتمثل في تعاون دول الخليج الداعمة الأساسية للمعارضة السورية من أجل البدء بتغيير ميزان القوى العسكرية على الأرض، والآخر يتجسد في تعاون أوروبي – خليجي – أميركي من أجل الضغط على النظام وحلفائه الروس والإيرانيين والعراقيين.
بعد التغيير في قطر على مستوى الأشخاص، والاستغناء عن رأسي السلطة حمد بن خليفة آل ثاني وحمد بن جاسم، تعددت التوقعات، ولكن سؤالاً وحيداً يتردد إلى اليوم: ما هو اتجاه سير قطر مع الحاكم الجديد تميم بن حمد؟ وهل ستبقى المشيخة الصغيرة على الحجم الذي صنعته لنفسها على المستوى العربي والدولي، والذي يتجاوز حجمها الفعلي بآلاف الأضعاف ويتخطى الدور الذي رسمه لها رعاتها وحُمَاتها الخارجيون؟
عند هذا السؤال لا بد من التسليم بالحقيقة التي تكمن في أن الصمود السوري أمام الحصار والحرب المعلنين من العرب والعالم، فضلاً عن تذمر الشعوب من الدور القطري الهدّام في نشر الفوضى والقتل والتدمير، فرض وقائع جديدة دفعت أميركا إلى قناعة عنوانها الفشل الذريع في سوريا، وبالتالي لا بد من الاستغناء عن الأدوات التي فشلت في تحقيق الرغبة القاتلة، واستبدالها بأدوات من الصنف ذاته، لكن بحيثية أفضل، فكانت الخطوة الأولى باجتماع «إسلاميي الناتو» في القاهرة لنقل المرجعية الإفتائية إلى السعودية من خلال تقديم القرضاوي الاعتذار والطاعة إلى علماء المملكة. واستتبعت هذه الخطوة بزيارة وفد أمني أميركي للدوحة وتبليغ الشيخ حمد بضرورة إجراء تغيير يبعد رئيس وزرائه حمد عن قيادة الملفات العربية، وهكذا كان.
وقد اضطرت قطر إلى دفع جزء من الأثمان جراء تهورها وتجاوز التعليمات الأميركية بعدم إرسال بعض أنواع الأسلحة إلى تلك العصابات، كي لا تقع في أيدٍ لا تريد واشنطن الوصول إليها، ولا سيما أن يقين أميركا ترسّخ باستحالة تغيير بشار الأسد، وأن مشروعها عبر الوسائل العسكرية فشل فشلاً ذريعاً، لذا لا بد من البحث عن تسوية سياسية تنقذ ماء الوجه.
ليس بمقدور قطر اليوم سوى أن تعمل على إحصاء خساراتها مع سقوط الإخوان في مصر، وهي التي استثمرت المليارات لتوسيع خريطة نفوذها. وواجهت الاستثمارات القطرية معارضة واسعة وأثارت الكثير من التساؤلات والشكوك في بلدان الربيع العربي بسبب الغموض الذي يلفها وارتباطها بخطط مشبوهة مثيرة للقلق لدعم جماعات الإسلام السياسي.
فيما تعيش قطر تحت تأثير صدمة انهيار حلفائها في أكبر دولة عربية، وتنتظر معرفة تداعياتها على ملفات أخرى في تونس وفلسطين وسوريا، تحيط أسئلة كثيرة بمصير الرباط المقدس بين قطر وحلفائها الإسلاميين اليوم: هل يكون سقوط الإخوان في مصر ورقة الطلاق البائن لدولة قطر مع مشروع هيمنة الإسلام السياسي في المنطقة؟ وما هي الاتجاهات الجديدة للسياسة الخارجية القطرية في التعاطي مع التحول في المشهد المصري؟ وماذا عن دعم الجماعات المسلحة في سوريا مثل جبهة النصرة وأخواتها؟ وما هو مستقبل مفتي الربيع الإسلامي الشيخ القرضاوي في خضم هذا التغيير؟ وهل تكون القبلة الحميمة في احتفالات تنصيب تميم هي الأخيرة كما العشاء الأخير؟
بالمناسبة، أين هو القرضاوي؟



استثمارات للتدخل السياسي

تصف جهات معارضة في مصر وتونس الاستثمارات القطرية بأنها ذراع للتدخل في الشؤون الداخلية وترجيح كفة الأحزاب الإسلامية في تلك البلدان. ولا يخفي قطريون حنقهم، بخلاف التبجيل المعلن لـ«السياسة الحكيمة»، من تبديد أموال طائلة في السنوات الماضية بعيداً عن المعايير الاقتصادية لإدارة الاستثمارات.
ويقدر مراقبون حجم الأموال التي تدفقت من قطر على بلدان الربيع العربي بأكثر من 17 مليار دولار، وأنها ستجد صعوبة كبيرة في استعادة، ولو جزءاً من تلك الأموال.
أمير قطر المدجج بجيش من المستشارين والخبراء العرب والأجانب يجب أن يعلم أن الربيع لا يكون إلا بعقد اجتماعي يحقق العدالة والمساواة وبدساتير مدنية تضمن الوحدة والولاء الواحد للوطن، وأن الربيع لا يكتمل من دون إيجاد ديموقراطية برلمانية يمارسها الشعب ونوابه وفق مبادئ الحرية والمساءلة.
هذه هي شروط ربيع الشعوب الحقيقية التي يفترض أن يدعمها أي حاكم شاب يسعى إلى تقديم نموذج جديد للحكم في مدن الملح. يحتاج الأمير الجديد إلى الكثير من الذكاء والفطنة لتدارك حجم المأزق الذي أرسته سياسة «الحمدين» للخروج بأقل الخسائر الممكنة وأداء دور يجمع العرب ويحقق الأمن والاستقرار بدلاً من نشر الفتن وإشاعة الفوضى وتفتيت المجتمعات العربية.