منذ ربيع العام 2011، تورّطت «حماس»، حتى أذنيها، في الصراعات العربية والإقليمية والدولية، وتحولت، في النهاية، من حركة مقاومة فلسطينية، تحظى بتعاطف الأضداد، إلى طرف، بل، للدقة، إلى أداة سياسية في سياق مشروع غابت عنه فلسطين وقضيتها.
هل قاتلت حماس ضد حُماتها السوريين والمقاومين اللبنانيين؟ سؤال ما يزال من دون إجابة حاسمة، هي، في اعتقادي، غير مهمة؛ فالطعنة التي وجهتها حماس إلى محور المقاومة كله، بانقلابها السياسي على دمشق، كانت مبكرة وعلنية وواضحة و... مسمومة. وسمّها خطير، لأنه مذهبي.
ما يزال حزب الله ـــ نبيلا ومسؤولا ودؤوبا ـــ يسعى لتضميد الجرح، لكن هيهات الدواء؛ فالجرح غائر، والأذى الذي ألحقته حماس بخط المقاومة استراتيجي في آثاره المباشرة ومفاعيله المعنوية والثقافية والمجتمعية، بحيث تحتاج معالجته إلى ما هو أكثر من النبل والسُّترة، أي إلى المراجعة وتصحيح المسار.
راهنت حماس على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، القومي العلماني، لصالح نظام اسلامي يتربع الإخوان المسلمون على سدّته. وكان هذا الرهان، بالأساس، عبيطا؛ فأي نظام بديل، مهما كانت صفته، ما كان ليعطي «حماس»، ما أعطاه لها نظام البعث. وكان ذلك الرهان، في منطلقه واتجاهه، انتحاريا؛ فأي نظام بديل، ومهما كانت ايديولوجيته، ما كان لينشأ إلا في سياق التفاهم مع التحالف الأميركي الخليجي، أي في سياق السلام مع اسرائيل، وبالشروط الاسرائيلية.
لحسن حظ فلسطين، وما بقي من مقاومين في «حماس»، أن الأخيرة، خسرت رهانها العبيط الانتحاري ذاك، لكنها خسرت معه، لسوء الحظ، ثقة دمشق وتعاطف أغلبية السوريين الذين ما تزال صورة خالد مشعل ملتحفا بعلم الانتداب الفرنسي على سوريا، ماثلة في قلوبهم الجريحة، وما تزال كلماته المستخذية أمام المجرم الأول بحق سوريا وشعبها، «السلطان» رجب أردوغان، ترنّ في مسامعهم.
حديث التيارات داخل «حماس»، مهم بالنسبة للمشتغلين في السياسة والبحث والإعلام، لكنه، بالنسبة للفضاء المجتمعي الثقافي، بلا قيمة؛ فالخطاب الحمساوي ظل معاديا لسوريا، يختزن من الحقد الدفين ما يدمي الأحضان السورية الدافئة التي أعطت بلا حدود لمن لا يعرف معنى الوفاء؛ فأي مكان وأي مستقبل لحماس في سوريا؟
ابتهج الحمساويون للصعود الإخواني في مصر. وهذا متوقع؛ فهؤلاء، بالأساس، «إخوان»، ثم أنهم يتوقعون من رئاسة إخوانية للشقيقة الكبرى ما يعوّضهم عن خسارة سوريا، خصوصا أن الإمارة الحمساوية تقع على حدود السلطة الاخوانية الجديدة.
سأقصر السبب، وراء ذلك التوقع الخائب، على سذاجة الحمساويين، لئلا نقول أكثر؛ فهل كان منتظرا من رئاسة اخوانية، كان شرطها الدولي الاقليمي، الحفاظ على كامب ديفيد، أن تُحدث تغييرا في السياسات المصرية إزاء القضية الفلسطينية؟
ما حدث هو العكس تماما؛ فالسلطة الإخوانية في مصر، اضطرت حماس إلى الخضوع للمتطلبات الاسرائيلية في اتفاق دولي، ومنع المقاومة، وتحويل المقاومين إلى شرطة تتعقّب الفتيان الذين يسرّحون شعورهم على الموضة، وتراقب تحريم الاختلاط في المدارس الابتدائية.
بدلا من أن تستند «حماس» إلى السلطة الإخوانية في مشروعها الفلسطيني، انقلبت الآية، وتحولت إلى أداة للإخوان في مشروعهم المصري. وإذا كنا نتحفّظ على الكثير من الأفعال المنسوبة لـ «حماس» في نصرة هذا المشروع، فإن ما هو واضح تماما أن الحمساويين تورّطوا كليا في الصراع المصري ـــ المصري، بحيث أن ثورة 30 حزيران المضادة للإخوان المسلمين، أظهرت موجة واسعة من العداء لحماس، ما تزال دوائرها تتسع بالاتهامات من كل شكل ولون.
كم من شباب غزة وصباياها يحلمون اليوم بنسخة خاصة بهم وبهنّ، من ثورة 30 حزيران، للخلاص من الضغوط على خيارات الحياة الشخصية باسم الدين؟ وكم من القوى الاجتماعية والسياسية الغزيّة ترنو الى التحرر من الدكتاتورية الحمساوية الجاثمة على الأنفاس؟
وضعت حماس كل ما تملك من رصيد في سلّة قطر، متوهمةً أنها، بذلك، ستكون في قلب إدارة مشروع إقليمي، سرعان ما انحسر إلى عزلة متنامية تخنق الدوحة، خليجيا وعربيا. وسيكون على الحمساويين الآن أن يسددوا فواتير الصراع السعودي ـــ القَطري حتى آخر مليم.
الغزوة التكفيرية في سوريا تنهزم، والسلطان العثماني يصارع جثة أحلامه في تقسيم، ومرسي أمام النيابة، وحمد بن جاسم في معزل لندني، والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين فرّ، ثانية، إلى بلجيكا، وفي أوراقه طلب انتساب «حماس»!
مَن بقي للحمساويين غير حزب الله؟ وسيسعى لإنقاذهم من أجل فلسطين والمقاومة، إلا أن نجاحه، هذه المرّة، ليس مضمونا؛ ذلك أنه ليس في بنية حماس الفكرية والسياسية، ما يدفعها لمراجعة جذرية.