دمشق | لم يكد ينتهي الاجتماع الاقتصادي «الفريد من نوعه»، الذي عقدته بعض أطراف المعارضة الداخلية وشخصيات اقتصادية واجتماعية، للهجوم على الأداء الحكومي «السيئ» في الجانب الاقتصادي وإطلاق دعوات لإقالة وزيري الاقتصاد والتجارة وحاكم مصرف سوريا المركزي، حتى كانت الحكومة تعيد ترتيب أوراقها وتخرج بقرارات عدة، في خطوة لإثبات أن يد الدولة ما زالت قادرة على الإمساك بزمام المبادرة وانتشال السوريين من على حافة الجوع. يد الإنقاذ الحكومي، جاءت عبر زيادة عدد السلع التي تدخل في إطار الدعم وفق البطاقة التموينية، لتشمل مواد الشاي والبرغل والسمن والزيت النباتي، بنسب تصل إلى 25 و40 بالمئة على الزيوت والسمن، ليستطيع من خلالها السوريون، منذ يوم أمس، شراء 2 كيلوغرام من السمنة ومثلها من الزيت النباتي بشكل مدعوم من خلال دفتر العائلة.

ويعيد هذا التدخل الحكومي، بحسب مواطنين، إلى الأذهان فترة الثمانينيات، التي دعمت فيها الدولة معظم تلك السلع قبل أن تقتصرها قبل عقدين من الزمن على مادتي السكر والرز. لكن السوريين بغالبيتهم لا يريدون أن تقتصر عودة الحكومة إلى تلك الحقبة، على تقديم الدعم للمواد الأساسية فقط، بل يطلبون أن تطبق التجربة بكامل إجراءاتها وسياساتها وقوانينها «الناجحة»، حيث كان يُحال أي تاجر، يحتكر أو يتلاعب بالمواد، على القضاء العسكري وكل من يحمل الدولار على محكمة أمن اقتصادي، وفق المحلل الاقتصادي عمار سليمان، وذلك كي تحافظ الدولة على دورها الاقتصادي والسيادي.
لكن عودة التدخل الحكومي هذه المرة، «جدي واستراتيجي»، وخاصة أنه جرى تكليف وزارتي الاقتصاد والتجارة الخارجية والتجارة الداخلية وحماية المستهلك بإعداد دراسة أولية عن المواد الأولية التي سيشملها التسعير الإداري مستقبلاً، لتأمين وتخصيص كل أسرة بـ400 ليتر مازوت بالسعر الحالي لتأمين متطلبات التدفئة في فصل الشتاء، إضافة إلى اتخاذ إجراءات مستقبلية، وأخرى قد تكون يومية، تصبّ في هذا الاتجاه.
ولا يخفي خبير اقتصادي فضّل عدم الكشف عن اسمه، في تصريح لـ«الأخبار»، الصعوبات التي ستعترض تطبيق التسعير الإداري، في ظل تعطيل 23 جهة رقابية وتغييبها، على نحو متعمد في بعض الأحيان. وعن إمكانية إلزام الفعاليات التجارية في مختلف المناطق بما يصدره تعميم التسعير الإداري، يؤكد أنّ على الحكومة القيام بتوزيع المواد المدعومة، على جميع منافذ وصالات المخازن التموينية، والجدية في تطبيق هذه الخطوة، منعاً لدخول حلقات وسيطة في عملية البيع والشراء.
وبنظرة سريعة إلى قرارات تحسين الواقع المعيشي للسوريين، والتي جاءت خلال اجتماع نوعي، للجنة إعادة هيكلة الدعم، فقد أوكل إلى النائب الاقتصادي قدري جميل، التنسيق مع المحافظين لتحديد منافذ بيع يمكن أن تكون متاحة خلال الأيام المقبلة لتزويدها بالسلع المدعومة، ليكون السؤال عن عدد هذه الأيام، ولا سيما في المناطق والمحافظات التي تسيطر عليها وتحاصرها المجموعات المسلحة، وفي مقدمتها حلب التي يجري فيها «تجويع 4 ملايين إنسان» من قبل المعارضة، بحسب عضو مجلس الشعب فيصل عزوز. ويشير، أيضاً، إلى أنّ أهالي حلب باتوا يسألون اليوم عن رغيف الخبز الواحد، لا عن المواد الأساسية.
ويقترح أحد المشاركين في الاجتماع الاقتصادي المعارض على الحكومة، التي قررت متابعة تدفق السلع المتفق على استيرادها من إيران من خلال الخط الائتماني، بالسرعة القصوى، بهدف توفيرها في السوق بكميات كافية لكسر الأسعار، مدّ جسر جوي، من إحدى الدول الصديقة الداعمة لسوريا، لإنقاذ أهالي حلب، ولا سيما أن الشحنات التي وصلت خلال الأيام الماضية لم تكن كافية واستخدمت فقط «للترويج الإعلامي»، حيث «كانت شاحنات الأغذية تدخل الأحياء برفقة كاميرات التلفزيون التي تصور آلاف المواطنين بالقرب منها قبل أن تغادر بعد أن تنتهي المهمة»، بحسب إعلامي سوري مقيم في حلب.
إلا أنّ وضع حلب «الجائعة» هذه الأيام، إضافة إلى الاقتصاد المتدهور والمتردي في كل المحافظات، بسبب الارتفاع الدراماتيكي لأسعار المواد والسلع وزيادة سعر صرف الدولار، بات يهدد بقيام «ثورة جياع»، كما ورد في العديد من كلمات المشاركين في الاجتماع المعارض. لكن هذه «الثورة»، في ما يبدو، أخمدت نتيجة القرارات الحكومية، قبل أن تبدأ، بعد إدراك أن الفقر الذي بدأ ينتشر في البلاد، هو أكبر عامل لانهيار أي دولة في العالم.
وهنا يحمّل أحد السوريين المتابعين للأوضاع العامة في البلاد، من غير المحسوبين على الدولة أو المعارضة، الحكومة السورية «مسؤولية تجويع السوريين، بغية إشغالهم بهموم الحياة واللحاق بلقمة العيش، والتلاعب بهم كما تريد»، بعد التصدير الإعلامي بأن الأزمة في البلاد هي أزمة اقتصادية، مشيراً إلى أن «ثورة السوريين لم ولن تكون يوماً ثورة جياع»، كما يحاول البعض تصويرها.
وحسب المتابع، الذي رفض الكشف عن اسمه، في حديثه مع «الأخبار»، إنّ الحل الأساسي لجميع مشاكل السوريين وضمنها الاقتصادية يأتي من خلال إيجاد حل سياسي للأزمة، معتبراً أن أي إجراء حكومي في الشأن الاقتصادي سيكون قاصراً ولن ينفع في ظل عدم إيجاد الحكومة لحلول فعلية ناجعة تنهي حالة الانقسام الحاصل وانعدام الأمن وانتشار العنف في مختلف المحافظات.
وبين يد الحكومة القادرة على انتشال السوريين من أزمتهم الاقتصادية، واليد الأخرى التي تغيّب الأزمة السياسية في البلاد، يبقى السوريون ضائعين في جنبات حياة لم يعتادوها، ولسان حالهم يسأل: من سيتحمل المسؤولية، التاريخية والأخلاقية، أمام الله والوطن والشعب؟