عمان | في سنواته الأخيرة، أسرّ محمود درويش (13 آذار/ مارس 1941 ــــ 9 آب/ أغسطس 2008) لأصدقائه برغبته في الاستغناء عن منصبه رئيس تحرير لمجلة «الكرمل» بسبب استنزاف المنصب لوقته وجهده. يروي مدير التحرير آنذاك، الكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر في إحدى المقابلات أنّ «شاعر الأرض» توصّل في عام 2006 إلى قناعة بضرورة تجميد المجلة برمّتها. هكذا كان آخر عدد مزدوجاً (88 ـــ 89) لصيف وخريف السنة ذاتها. لكن رغم ذلك، كانت لصاحب «أثر الفراشة» أمنية بأن يصل إلى العدد 90 الذي تحقّق في ذكرى ميلاده عام 2009 من خلال إصدار عدد تكريميّ للشاعر الراحل.وبعد ثلاث سنوات على ذلك العدد، درس حسن خضر خلالها احتمال مواصلة هذا المشروع الثقافي والتنويري، ها هو المشروع ينبعث في لحظة مفصليّة من الثقافة الفلسطينية والعربيّة. المجلّة التي حافظت على طابعها الرصين منذ صدورها عام 1981 في بيروت، تعود باسم جديد هو «الكرمل الجديد» وبإدارة جديدة تحت مظلة «مؤسسة الكرمل الثقافيّة». وتصدر في طبعتين: فلسطينيّة تطبع في الأراضي المحتلّة، وعربيّة تطبع في عمّان وتوزعها «دار الشروق» الأردنية (الدار نفسها التي كانت تطبع وتوزّع «الكرمل»).
هل من المبكر الحكم على المجلة منذ عددها الأول (صيف 2011)؟ وهل من الأولى أن نحتفي بها، خصوصاً مع حلول ذكرى وفاة درويش الثالثة، بدلاً من البحث عن بصمات صاحب «كزهر اللوز أو أبعد» التي قد لا نجدها بسهولة؟ يصل بنا التساؤل إلى مدى انشغال درويش بمنصبه رئيساً لتحرير المجلة، خصوصاً أنّه أعرب مراراً عن تذمّره منها. يروي الكاتب وصاحب «دار الشروق» في عمّان فتحي البسّ، أن درويش كان فعلاً يختار المواد بنفسه، ويدقّقها، بمشاركة طاقم التحرير.
على مدى 28 عاماً، وعلى الرغم من الانقطاعات ورحيله القسري إلى قبرص ثم العودة إلى رام الله، استضافت المجلّة عدداً من أهم مفكري عصرنا وكتابه. من المفكّر الراحل نصر حامد أبو زيد، إلى الراحل إدوارد سعيد، وحسين البرغوثي، وصبحي حديدي. إضافة إلى اعتبارها محترفاً للتجريب الشعريّ في وقت شهد هبّة قصيدة النّثر. هكذا، فتحت «الكرمل» صفحاتها لسليم بركات، ونزيه أبو عفش، ومحمد بنيس، وغسان زقطان، ومحمد الماغوط. وحتى نصوص درويش التي رآها تجريبيّة مثل «ذاكرة للنسيان».
تعود «الكرمل» جزئيّاً من دون عرّابها ويرأس تحريرها حسن خضر. هكذا، يصار إلى «تصفير» العدّاد مرة أخرى إلى العدد 1 الذي يحتفي بالثورات العربيّة من مصر إلى تونس مروراً بسوريا.
هذا الاحتفاء يبدأ باختيار لوحة الغلاف للفنان المصري أحمد بسيوني الذي استشهد خلال الأيام الأولى من الثورة المصريّة. أما المفاجأة فكانت نصاً لدرويش لم ينشر في كتاب، ويحمل عنوان «خطب الدكتاتور الموزونة». يرى حسن خضر أنّه نصّ معاصر رغم كتابته منذ أكثر من 25 عاماً، لأنّ «بعض الحكّام العرب الذين لمّح إليهم ما زالوا على قيد الحياة، يحاولون البقاء في ربيع شعوبهم التي تسعى إلى إطاحتهم».
هكذا نجد أنفسنا وعصرنا في ما كتب درويش «ومن شاء أن يتمرّد، خارج شعبي، فليتمرّد/ سنأذن للغاضبين بأن يستقيلوا من الشعب، فالشعب حرّ (..) سأختار أفراد شعبي، سأختاركم واحداً واحداً مرة كل خمس سنين/ وأنتم: تزكّوني مرة كل عشرين عاماً إذا لزم الأمر أو مرة/ إلى الأبد». تقسم المجلة إلى ثلاثة أقسام: الأوّل مخصص للدراسات والمقالات في ربيع الشعوب العربيّة. وتضمّ نصوصاً ومقالات توثيقيّة وتأريخية مهمّة، كتبها كل من المفكّر المصري سمير أمين، والأكاديمي الفلسطيني رشيد الخالدي، والناقد السوري صبحي حديدي، والباحث الفلسطيني مهند مصطفى، والفرنسي ألان غريش، إضافة إلى حسن خضر. أما القسم الثاني فهو «كلام شهود» الذي ينقل شهادات حيّة، تأخذ أحياناً شكل قصص قصيرة، لكتّاب وروائيين شهدوا الثورة المصريّة في الميادين أو عن بعد. وقد كتبها كل من عز الدين شكري فشير، وابراهيم عبد المجيد، ومريد البرغوثي، وفيصل درّاج.
وفي القسم الثالث «الشاهد من نافذة الأمس»، يكتب كل من سامية محرز وصبحي الزبيدي حول تراكمات التجربة المصريّة في تشكيل الثورة، من مشهد صنع الله ابراهيم وهو يرفض جائزة الدولة التقديرية، إلى مشاهد السينما التي تنبأت بالثورة المصريّة.
في النهاية، لا يمكن الحكم فعلاً على العدد الأول. ربما يجب علينا أن نعتبره عدداً احتفالياً لمناسبتين: توثيقاً للثورات العربيّة بمقالات لا يمكن قراءتها وسط زخم الأخبار والتحليلات، واحتفاءً بتاريخ المجلة التي إن لم تدّع إطلاق مدارس أدبية جديدة كمجلة «شعر»، إلا أنّها أساهمت على الأقل في الإشارة إليها.



سخرية عالية

كتب حسن خضر في افتتاحيته في العدد الأول من «الكرمل الجديدة»: «غابت عن هذا العدد، بسبب كثافة المادة، أبواب كثيرة، وهذا ما سيصار إلى تداركه في أعداد لاحقة. بيد أن النصوص الإبداعية لم تغب تماماً، فقد انفردت المجلة بنشر نصوص لمحمود درويش بعنوان «خطب الدكتاتور الموزونة»، كان الحاضر دوماً قد نشرها في أواسط الثمانينيات في مجلة «اليوم السابع» الباريسية، ونُشر بعضها على الإنترنت أخيراً وكان مليئاً بالأخطاء المطبعية. النصوص الأصلية الصحيحة في هذا العدد تلقي ضوءاً على التحوّلات الثورية الجارية في العالم العربي، وتتجلى فيها روح السخرية العالية، والنظرة الثاقبة إلى معنى ومبنى الدكتاتور العربي».