يتوقّف المرء حائراً أمام مشهد ملحمي يسقط فيه يوميّاً مئات القتلى بين سوريا والعراق منذ سنين وعندما يلتقي أحداً من البلدين لا يلمس في ردود فعله شيئاً ممّا كان يتخيّل. وإذا أتيح لأحدنا أن يلتقي مسؤولاً، عسكريّاً أو سياسيّاً، يحادثه عن مجازر البلدين لا يلمس لديه إحساساً بالذنب أو بالفظاعة، بل يُفاجأ بصلابة أعصابه وجمود قلبه وكأنّه ولد في العنف وعاش في العنف ومِنْ حكْم الأقدار أن يموت بالعنف.
قبل مدّة شاهدتُ على التلفزيون ندوة حول حروب 1975 وما بعد في لبنان. كان أبرزهم وخاصّة في تصميمه ووضوحه ممثّل «المرابطون». كان لا يزال كأنّه في عام 1975 طازجاً بلا تجعيدة. عرفنا مسيحيّين من الكتائب والقوات حملوا السلاح واشتهروا ببأسهم ثم زعزعت الحرب أركانهم فلاذت إحداهن بالدير وانصرف أحدهم إلى تلاوة فعل الندامة يوميّاً، منهم مَن هاجر إلى المجهول هرباً من المرآة ومنهم مَن خلق فيه ردّ الفعل حبّاً متطرّفاً للمسلمين.
يتسبّب الندم بالعُصاب أو بالذهان، وقد يلصق الشخص بنفسه آثاماً لم يقترفها. لا حدود للندم ولا قاع للتوبة.
شجّعني على طرق هذا الموضوع مقال حديث للروائي والمخرج السينمائي الأفغاني عتيق رحيمي حول الشعور بالذنب والاعتراف، انطلاقاً من رواية دوستيوفسكي «جريمة وعقاب». وله في المؤلّف الروسي كتاب بعنوان: «ملعون هو دوستيوفسكي».
يقول رحيمي بعد عودته إلى أفغانستان إثر سقوط حكم الطالبان، إنّه أخذ يتفحّص وجوه «أمراء الحرب، كلّ هؤلاء المجاهدين، والشيوعيّين، العائدين إلى الوطن فخورين ومعتزّين، وواجهتُ نفسي بآلاف الأسئلة حول معنى المسؤوليّة والشعور بالذنب في زمن الحرب. باسم ماذا بَرَّرَ هؤلاء وحشيّتهم؟ الشيوعيّون كانوا يبرّئون أنفسهم باسم عقيدتهم، والمجاهدون باسم الله، وسواهم باسم الهويّة القوميّة والعرقيّة... تلكم أمّة بجرائم دون عقاب! لم يجرؤ أحد على مقاضاتهم. لم يتعذّب أحد من جريمته. كيف استطاعوا أن يعيشوا في الإنكار؟».
ويتوسّع رحيمي فيتساءل: «لماذا يغيب الشعور بالذنب في بلدان كأفغانستان؟ سؤالٌ ساذج ودينيّ لكنّه أتاح لي أن أفهم النصوص المقدّسة. لقد لاحظتُ أنّ الإسلام، على عكس الدينَين الإبراهيميَّين الآخرَين، خالٍ من مفهوم الذنب المقرون بالخطيئة الأصليّة. القرآن يقول إنّ الله غفر لآدم وحوّاء خطيئتهما. إذاً، لمَ طردهما إلى الأرض؟ على الأرجح لكي تمرّ البشريّة بسلسلة تجارب في سبيل المحافظة على براءتها وإثباتها بالبرهان. أن يولد المرء مسلماً هو إذاً أن يكون قد ولد نقيّاً. وللحفاظ على نقائه ينبغي للمسلم أن يظلّ مخلصاً لإيمانه، أن يحمي ذاته من سائر الأديان والأفكار. من هنا، في رأيي، الحمائيّة التي يتّصف بها الشعب المسلم. من هنا هذه النزعة إلى القول إنّ الخطيئة تأتي من الآخر، ومن هنا الامتناع الدائم عن مساءلة الذات ومحاكمتها».
أنقل هذا الرأي عن الكاتب الأفغاني ولا أُنكر أنّه يفتح أفقاً ويجيب عن تساؤلات لكنّه يغفل تساؤلات.
مثلاً: نيرون وكاليغولا لم يكونا مسلمَين، ونابوليون وهتلر مسيحيّان، ومفترضٌ أنّ ستالين «كان» على الأقل مسيحيّاً، ولم يُقدِم أحدٌ منهم على توبةٍ أو اعتراف بجرائمه. آرييل شارون يهودي ولم يشعر بذنب لاجتياح بيروت ولا شمعون بيريز لمجزرة قانا. نظافة الإسلام من الشعور بالذنب لا تكفي لتفسير القتال بلا رحمة. لا شكّ في وجاهة هذا السبب، وهو يساعد في تفسير وحشيّة التقاتل في العراق وسوريا. ولكن يجب، لإكمال الصورة، أن نضيف عامل السلطة. السلطوي عِرْق بشريّ خاص، يتعامل مع العواطف تعامله مع التطوّرات الخارجيّة، يديرها ويستغلّها ويوظّفها في خدمة قبضته. والأيديولوجي يقتل بلا رحمة، وقد برهن الشيوعيّون في الثورة البولشفيّة ثم في ألمانيا وأوروبا الشرقيّة وأفغانستان وحيثما وطئت أقدامهم أنّهم أشدّ بطشاً من الجميع.
والمسيحيّون في الحروب الصليبيّة لم يثبت أنّهم قتلوا المسلمين بندم ولا حتّى أنّهم انهزموا أمام صلاح الدين بتوبةٍ أو ندم. قد يفسّر العامل الديني شدّة البأس في قتال المسلم لكنّه لا يفسّر فظاعات الاستعمار ووحشيّة الأميركيّين في إبادة الهنود الحمر أصحاب الأرض. ولا يُفسّر وحشيّة الجيش الأميركي لدى غزوه العراق، ولا قنبلتَي هيروشيما وناغازاكي. ولا حاجة إلى تعداد الشواهد فالتاريخ حافل والذاكرة ملأى.

■ ■ ■


... إلّا إذا، بعاملٍ انقلابي، تحوّل شعور الذنب أحياناً إلى حافز للعنف، كنوعٍ من نحر الذات وتفجيعها. وهذا وارد جدّاً في حالاتٍ معيّنة من الشعور بالذنب.


■ ■ ■


عرف الإسلام مراحل ازدهر فيها التعايش بين المسلمين والنصارى واليهود، كمرحلة الأندلس، وبخاصّة قرطبة. تلك كانت لحظة تاريخيّة نادرة ظهر فيها فلاسفة روّاد مثل ابن باجة وابن طُفيل وابن رشد. إذا عدنا إلى كتاب «طوق الحمامة» لابن حَزم انكشفت لنا تفاصيل مذهلة عن تطوّر الحياة في الأندلس، ولا سيما في قرطبة لدى بلوغ الإمارة الأمويّة فيها ذروة التألّق قبل انهيارها وتفتّتها إلى إمارات لملوك الطوائف.
اليوم يكثر الكلام حول الإسلام وأنواع الإسلاميّين. يجب أن يُعاد التركيز على مراحل كالدولة الأمويّة ثم حكم المأمون فالأندلس. تلك كانت لحظات من العصر الذهبي للعالم العربي وللإسلام. تلك كانت شواهد على أنّ الإسلام يمكن أن يكون من أرحب الأديان، وفي ظلّ رحابته يمكن أن تزدهر أعظم الحضارات.
لماذا التركيز على الجوانب المظلمة وحالات التعصّب والتخلّف ولم تكن يوماً وقفاً على الإسلام؟ لماذا لا يعيد الأحرار فتح الصفحات المشرقة في تاريخ الإسلام للبرهان على أنّه طَيّعٌ لمَن أرادهُ باب نور كما هو طيّع لمَن أراده باباً مغلقاً. العبرة في الممسك بزمام السلطة وفي الاتجاه الذي تسلكه إرادته. والعبرة في أهل الرأي وشجاعتهم.

■ ■ ■


الوحشيّة صفةٌ مشتركة بين الجميع في الحروب وبالأخصّ الحروب الأهليّة. ولكنْ أن تقول وحشيّة وحروباً فإنّما تدخل في نطاق العبثيّة، وهذا ما عبَّرَت عنه حركات التمرّد الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة في أوروبا بعد الحربين العالميتين، حركات بلغ فيها برافضي الحرب حدّ الثورة على حضارتهم ومحاولة تغيير قيم مجتمعاتهم، والخلوص، قانونيّاً وفعليّاً، إلى أنّ الإنسان مقدّس وحياته جوهرة وحقوقه فوق الأعراف والتقاليد.
الشعور بالذنب قد يضعف البأس لكنّه ينقذ العدالة. هو نقطة الندى التي لا معنى للفجر بدونها. الشعور بالذنب هو مصدر التعاطف ومصدر التواضع ومصدر الولادة من الضمير.
لا شكّ أنّ الكاتب الأفغاني يبالغ في التبسيط. وأنا وأنت نعرف مسلمين أرقّ من الأطفال. ونعرف شعوباً إسلاميّة لا يضاهيها في الرهافة والحنان أحد، كالشعب المصري. وغيره وغيره. ولكن أيّاً يكن تبقى تبرئة المسلم من الخطيئة وبالتالي إعفاؤه من التوبة والندم والشعور بالذنب، قضيّة من أهمّ القضايا التي يجب أن تكون في صميم أبحاث الفلاسفة العرب.



عابــــــرات


حول أنّ الحياة وهم:
المرأةُ أيضاً واهمة ولكنْ أقلّ من الرجل. لا لكونها أحد أكبر أوهامه، بل لأنّها مهما خُذلتْ تتحسّس بطنها عند الحَمْل فيغمرها جوابٌ قاطع.


■ ■ ■


مَن يكتب الحكمة ينصاع له الهذر ومَن لا يكتب إلّا الحكمة تخنقه مومياؤه.

■ ■ ■


الكتابةُ لا شيء إنْ لم تكن اكتشافاً. الأدب من هذه الناحية لا يختلف عن العلم. الأديب مؤرّخ وفقيه وسُلالي وطبيب. كلّما أمسك الكاتب قلمه يُفترض أن يدوس أرضاً جديدة.

■ ■ ■


يتغيّر المرء حين يصل إلى حافة الهاوية، شرط أن يدرك أنّها حافة الهاوية.

■ ■ ■


من دواعي حبّي لقصائد فكتور هوغو الموزونة أنّها تعوّضني عن فشلي في الوزن وتملأني إيقاعات ترقص فيّ بصرف النظر عن معناها. هذا شاعرٌ لا يُحوّل المواد والعناصر إلى شعر بل يخلق الشعر من عَدَم.

■ ■ ■


إذا انتقمنا نفقد حقّ المظلوميّة. الشعور بالظلم أغنى من نشوة الانتصار.

■ ■ ■


هل لكَ مَن يصلّي لأجلك؟ هذا هو الموضوع.





قصة مع دار الجمل

فوجئت بثلاثة كتب لي، هي «الوليمة» «وخواتم 1» وخواتم 2»، تصلني إلى «الأخبار» خلال غيابي الذي استمر شهراً لأسباب صحيّة. تصلني وقد أعيد صفّها وتركيبها مع مقدمة لطيفة للكتاب الأول غير موقّعة.
إنها دار الجمل لصاحبها الشاعر العراقي الأستاذ خالد المعالي، وعبثاً تحاول الاتصال به، هنا أو في بغداد، لتقول له إنه أرسل لي في الماضي عرضاً لإعادة نشر كتبي ونشر الجديد والمختار من «خواتم ــ 3» عبثاً تحاول، فلا تسمع على الطرف الثاني من الهاتف إلّا كونه مغلقاً.
لا أعرف كيف استنتج الأستاذ خالد من مجرّد إرساله لي عرضاً ـــ هو عرض هزيل من الناحية المادية ـــ أني وافقت على العرض؟ وكيف باشر إعادة صفّ كتبي وأنا لم أردّ على العرض؟
لم أفهم، وصاحب الدار غائب بلا أمل اتصال،
أغتنم هذه الفرصة لأطلب من دار الجمل التوقف عن التصرف بكتبي وعدم إنزال الكتب الثلاثة التي أعيد طبعها الى السوق تحت طائلة المسؤوليّة.