مرّة أخرى، تظهر الدول الأوروبيّة انحيازها ضدّ العرب وضدّ حقوقهم المشروعة، وفي طليعتها حق المقاومة المسلّحة لتحرير الأرض واسترجاع الحقوق المسلوبة. فحزب الله لا تنطبق عليه مواصفات «الحركة الإرهابيّة»، باعتراف عدد كبير من الخبراء الحقوقيين والسياسيين الأوروبيين، وقوامها العنف الأعمى والمجاني والاعتداء على العزّل والأبرياء وارتكاب مختلف أشكال القتل والعنف العشوائي، وهو ما لم تثبته حتى إسرائيل نفسها ضد حزب الله. ما يزعج أوروبا أن الحزب قوّة مقاومة التفّ حولها الجزء الأكبر من الرأي العام العربي التفافاً أثار رهبة عند العالم في تمّوز ٢٠٠٦. من يومها، يبحث الغرب برمّته عن وسائل لإخضاع الحزب بغير الوسائل العسكريّة التي فشلت كلها، وإن لم يتوقف العمل على تكرارها. يشنّ الغرب أبشع حرب تشويه وتزوير إعلاميّة ضخمة في أوروبا وفي الإعلام الخليجي، وطبعاً عبر نصب فخ الفتنة الذي من شأنه، إذا لم يتمّ تفاديه ببطولة جبّارة هي من شيم المقاومة، أن يغرق لبنان والمنطقة في بحر من الدماء، والحزب في رمال متحرّكة تحطم أسطورته وتكسر هالته وتنهك قواه وتقضي عليه…
بعد التزوير الإعلامي المنهجي عبر آلة كونيّة ضخمة تضخ لها الامكانات، وبعد نار الفتنة المذهبية التي لم تحقق هدفها حتّى الآن… جاء دور سلاح «الشرعيّة الدوليّة» التي تسعى إلى تجريم المقاومة وأبلستها شرعاً وقانوناً عبر إعلانها منظّمة إرهابيّة… ألم تكن منظمة التحرير الفلسطينيّة ذات يوم «إرهابيّة» أيضاً... ثم عندما قدمت التنازلات للكيان الصهيوني حصلت على بعض الغفران؟
«الديمقراطيّات» الغربيّة ترعى إسرائيل ومستمرة في انحيازها مع الظالم ضد المظلوم، منذ وعد بلفور حتّى الحرب على لبنان وعلى غزّة، مروراً بكل السياسات القمعيّة العنصريّة الاستيطانيّة المتواصلة. وهذه المنظومة لا تزال مسكونة بعقدة ذنب تاريخيّة تتعلّق بآثامها وبربريّتها في الحرب العالميّة الثانيّة بحق يهود أوروبا. ما يزعجها أن حزب الله قوّة ضاربة ضدّ احتلال فاجر هو رأس حربة الاستعمار الغربي في الشرق العربي، وضد إسرائيل التي لا تعرف العيش خارج الحرب والثقافة العسكريّة في محيط زرعت فيه قسراً. جاءت المقاومة الإسلاميّة وكسرت أسطورة التفوّق الاسرائيلي التي ساهمت في خلقها أنظمة عربية متخلفة، قامت ببطولات ومراجل لفظية، وبنت جيوشها لقمع شعوبها فقط، أنظمة فاسدة مستبدة عاجزة ومتواطئة طوال نصف قرن أعطت لإسرائيل فرصة التفوّق العسكري والانتصار في المعارك على شتّى الجبهات. حزب الله كسر هذه الأسطورة، وكان لا بد من أن يدفع الثمن…
حزب الله مقاومة وطنيّة وقوميّة وإسلاميّة تصدّت للوحش ببسالة وإيمان، فيما إسرائيل دولة عسكريّة اسبارطيّة تأسست على الإرهاب والمجازر، ولا تعرف إلا لغة السلاح. حزب الله عزز اقتناع المواطن العربي بأن المقاومة المسلّحة وحدها تعيد لشعوب المنطقة حقوقها، تلك المقاومة دجّنت وأجهضت وحشرت في أكثر من مكان (بدءاً بمنظمة التحرير بعد مدريد، وصولاً إلى «حماس» بعد وصول الإسلاميين الى الحكم ومساومتهم مع الوصاية الغربيّة على سلطتهم ونفوذهم: هذا العقد الشيطاني الذي لم يتحمّله الغرب أكثر من أشهر). لكن المقاومة المتمردة، والعصية على التدجين، تتجلّى اليوم في حزب الله الذي يشكّل قوّة إقليميّة ضاربة بوسعها أن تقف في وجه إسرائيل، وتقول لها: كلا، وتخلق توازن رعب لا يمكن التعاطي مع إسرائيل من خارجه، وحتى لمن يرغب في تسوية معها، فلا قدرة له على تحقيق هدفه من دون هذه المقاومة.
أوروبا دخلت الحرب (مرّة أخرى) إلى جانب إسرائيل. أعلنت الحرب ضدّ المقاومة لأسباب سياسيّة لا علاقة لها بالقوانين الدوليّة ولا بالعدالة…. اللهم إلا إذا اعتبرنا أن هذه وتلك وجدت لتحمي حقوق القوي وتساعده على إحكام قبضته على الضعيف، عدالة مزيّفة منحازة تخدم الأنظمة الاستعماريّة وتحكّمها في رقاب شعوب تفتقر إلى الخبز والحريّة والعدالة والعلم والتنمية المستديمة.
هل المؤسسات الدوليّة والقوانين الدوليّة وجدت لحماية المصالح الاستراتيجيّة للرجل الأبيض؟ الرجل الأبيض المصرّ على حماية الغطرسة الاسرائيلية الدمويّة، ومواصلة هيمنته على منطقتنا، وسرقة مواردها، واستغلال أهلها، وطمس ثقافاتها، وإغراقها بالقيم الاستهلاكيّة التي تأتي مع بضائعها، واستلاب حقوق شعوبها.
مشكلة «الديمقراطيّات» الأوروبيّة في كونها تحتكر، للرجل الابيض فقط، حق التمتع بقيم التحرّر والعدالة والتنوير ومقاومة الاحتلال، وأنها قيم لا تصلح لشعوبنا لأنّها تعرّض مصالحها للخطر. مشكلة «الديمقراطيّات» الغربيّة أنّها لم تتعلّم من أخطاء التاريخ القريب. مشكلتها أنّها ترفض الاعتراف بأنّها تتحمّل قسطاً عظيماً من المسؤوليّة عن فقر شعوبنا وقهرها وتخلّفها وانسحاقها تحت نير بنى اقتصاديّة طفيلية مرهونة لها، وبنى سياسيّة قمعيّة هي دائماً صديقة الغرب وتنال بركاته أو تعقد معه التسويات والصفقات!
التاريخ يسير إلى الأمام. هل يذكر وزراء الخارجيّة الأوروبيون الذين صوّتوا أمس على القرار كيف كانت النازيّة تصنّف المقاومة الفرنسيّة...؟ وهل منع ذلك المقاومة من الانتصار في آخر المطاف؟