«التفكيك وإعادة التركيب». لم تمل وزارة الثقافة من استخدام هذه العبارة في معرض تبريرها لطمس معالم بيروت الاثرية. جديد وزير تصريف الاعمال غابي ليون الحفرية BEY155 في العقارين رقم 834 ورقم 1410 اللذين يشكلان امتداداً عمرانياً لميدان سباق الخيل الذي يخترق عقارات عدة، بعضها جرف، وبعضها ينتظر التفكيك، وبينها العقار رقم 1370 الذي توقفت فيه الاعمال بناء على قرار اعدادي صدر عن مجلس شورى الدولة، في المراجعة التي رفعها التجمع للحفاظ على التراث اللبناني.
سباق الطعون والمراجعات امام شورى الدولة لن يتوقف في محاولة من التجمع اللبناني لاقناع وزارة الثقافة بضرورة العودة عن قراراتها بالتفكيك والدمج، الى استملاك جميع العقارات التي تشكل المساحة الاساسية من ميدان سباق بيروت الروماني الذي يعد الخامس في المنطقة، بعد ميادين القيصرية في فلسطين وجرش في الأردن وبصرى الشام في سوريا وصور في لبنان.
في 3 حزيران الماضي اصدر الوزير ليون قراراً حمل الرقم 2437 وافق فيه على طلب شركة «رويال هوتلز اند ريزورتس» RHR دمج الآثار المكتشفة في البناء المنوي انشاؤه في العقار 834، على ان تخصص مساحات في الطابق السفلي الاول من البناء للاثار وابرازها.
وتبين الخرائط التي وافقت عليه المديرية العامة للآثار ان شركة RHR، المملوكة من الوزير مروان خير الدين وشقيقه وسيم ووالده سليم خير الدين، قد تعهدت بالحفاظ على حائط الاساس للمدرجات الشمالية، في المرحلة الثانية لميدان سباق الخيل الروماني الذي يعود للقرن الاول بعد الميلاد، حيث سيتم تخصيص ممر للعموم. لكن المديرية العامة للآثار لم توضح ما اذا كانت قد حصلت على ضمانات خطية بامكانية استخدام الطابق السفلي للبناء كمتحف، علماً ان شركة RHR أوقفت العمل في العقار عام 2009 وغيرت وجهة البناء من شقق سكنية الى فلل صغيرة، كون منطقة وادي ابو جميل تحولت الى منطقة امنية يمنع الدخول إليها إلا باذن امني، مع انتقال الرئيس سعد الحريري الى «بيت الوسط»، كما ان وجود الكنيس اليهودي سيعزز الاجراءات الامنية، في حال قررت الجالية اليهودية في لبنان تدشينه بعد ان شارفت على انجاز اعمال الترميم والتأهيل.



يقدم عالم الاثار الهولندي هانس كيرفر، الذي اشرف على اعمال الحفر في العقار عام 2008، تصوراً مفصلاً لجميع المكتشفات الاثرية الواقعة في العقارات 1370 و 843 و 1410، ويؤكد كيرفر انه في حال استكملت الحفريات في هذه العقارات خصوصاً العقار 1410 التي تملكه ايضاً شركة RHR، ان من المتوقع ان يماط اللثام عن مسرح روماني فائق الاهمية ملاصق من جهة الشرق لميدان سباق الخيل. الخبير الهولندي الملقب بـ«آثاري سوليدير» يطالب منذ قرابة عام السماح له باستكمال اعمال الحفر في العقار 1410، ولقد تلقى وعوداً من مديرية الآثار بالسماح له باستكمال العمل بعد موافقة المالك، لكن ذلك لم يحصل الى اليوم.
وفي عودة الى ارشيف التقارير العلمية حول حفرية BEY155 يتبين ان الاثاري هشام الصايغ الذي عمل مع كيرفر في هذا الموقع في المرحلة الاولى، قبل ان يصبح الاثري المسؤول عن الحفرية، قد اوصى بضرورة التعاطي مع العقارات التي تشكل امتداداً لميدان سباق الخيل بطريقة موحدة، والمحافظة على المكتشفات الاثرية في مكانها. كما ان الاثاري الدكتور ناجي كرم كتب تقريراً حول اهمية ميدان سباق الخيل. وكان المشرف على اعمال الحفر في بيروت الدكتور اسعد سيف كان قد وجه في 14 آب 2009 كتاباً الى المدير العام للاثار فرديريك حسيني يشير فيه الى اهمية الموقع وضرورة المحافظة على الاثار في مكانها.
اللافت ان الحفرية الاثرية في العقار رقم 843 توقفت قسراً في شهر آب 2009، بسبب توقف اعمال الحفر بأمر من صاحب المشروع الذي رفض تحمل التكاليف المالية الناتجة من الحفريات الاثرية، وتذرعت الشركة بأن العقار بحاجة الى اعمال تدعيم قبل المباشرة بالتنقيب الاثري حفاظاً على سلامة فريق العمل.
جردة المكتشفات الأثرية في العقار 834 تبين وجود ارضية ميدان سباق الخيل في مراحلة الثلاث الهلنستي والروماني الاول والثاني، اساس المدرجات الشمالية في المرحلتين الاولى والثانية، اساس المدرجات الجنوبية في المرحلة الأولى، الحدود الجنوبية لارضية الميدان في العهد الهلنستي، اضافة الى أعمدة غرانيت مع التيجان والقواعد المحفورة والمزخرفة التي استخدمت في عمارة الميدان، وجميع هذه المكتشفات هي مطابقة لتلك التي تم اكتشافها في العقار 1370. كما تم اكتشاف تمديدات مياه واثار لجدران منازل ومدافن هلنستية وبعض الآثار من العهد العثماني، والتي لم يتم استكمال حفرها وتفكيكها لمعرفة الطبقات التي تليها. جميع هذه الآثار وتلك التي لا تزال مدفونة، سوف تقوم الاثارية ديفينا ابو جودة بتفكيكها بناء على اقتراح رفعته الى الشركة، ووافقت عليه المديرية العامة للآثار. وما يثير الغرابة ان الشركة المالكة وافقت على اعمال التفكيك والتخزين بكلفة خيالية تفوق مليون دولار اميركي، علماً بانه يستحيل اعادة تركيب العديد من العناصر المعمارية لحائط المدرج الروماني بعد تفكيكه، كما ان اعادة الدمج لا تتجاوز 25% من اجمالي الآثار المكتشفة التي تفقد مع تفكيكها قيمتها التاريخية لترقد في مخازن المديرية العامة للاثار حيث «لا أذن تسمع ولا قلب يوجع».
وعلمت «الأخبار» ان التجمع للمحافظة على التراث اللبناني بصدد تقديم مراجعة امام مجلس شورى الدولة للمطالبة بوقف قرار الرقم 2437 الصادر عن الوزير ليون بالموافقة على تفكيك الاثار في العقار 834. وكان مجلس شورى الدولة قد اتخذ في ايار 2012 قراراً مشابهاً في العقار رقم 1370، حين وافق الوزير ليون على طلب شركة «بيروت ترايد»، المملوكة من رجل الأعمال ناظم علي أحمد القيام باعمال تفكيك ودمج. ويستند مجلس شورى الدولة في وقف قرارات وزير الثقافة الى شغور منصب المدير العام للآثار الذي لا يزال وفق القانون صاحب السلطة الوحيدة، بالترخيص باجراء اشغال على المواقع الاثرية، اضافة الى كون القرار يشكل انحرافاً في استعمال السلطة وهو مخالف للاتفاقية الدولية التي انضم لبنان اليها وهو ملزم باحكامها، ويطالب، للمحافظة على التراث اللبناني، بضرورة استكمال اعمال الحفر في العقار 834 حيث من المتوقع اكتشاف المدرجات الجنوبية من الميدان في مرحلته الثالثة والاخيرة. كما يعترض على تفكيك الاثار لانه سيؤدي حتماً الى تفتيتها وتخريبها، وفي جميع الاحوال فان اعادة تركيب الاثار كما كانت اصلاً هو امر مستحيل.

القرار رقم 2437 الصادر عن وزير الثقافة غابي ليون بتاريخ 5 حزيران 2013