منذ عشرين سنة والحفريات الأثرية تتوالى في بيروت. وكلما رفع التراب عن آثار رومانية ضخمة، يأتي السؤال الكلاسيكي: هل هذه هي مدرسة الحقوق؟ بقي السؤال بدون جواب، حتى أتت الحفريات في موقع اللاندمارك في ساحة رياض الصلح لتعيده الى الواجهة، بعد اكتشاف مبنى ضخم جداً. عرض الجدار يصل الى 9 أمتار أما طوله، فالجزء المكتشف يتجاوز 30 متراً، وتبين الدراسات الجيوفيزيائية أنه يمتد تحت بناية الاسكوا والتياترو الكبير. ويشرح مدير الحفريات في المديرية العامة للآثار، الدكتور أسعد سيف «أن الجدار المكتشف يعود لمبنى ضخم جداً، ولكن لا يمكن الجزم بجهة استعماله إن لم نعثر على كتابة تؤكد ذلك». مدرسة الحقوق؟ يبتسم سيف ويقول إنه لا يؤكد ذلك ولا ينفيه في آن واحد، «لقد عثرنا في الموقع على تمثال نصفي لعالم الفقه اليوناني ايزوكراتيس الذي كانت تدرس أعماله في مدرسة الحقوق، كذلك تحدد النصوص التاريخية موقع مدرسة الحقوق الى الجهة الجنوبية للمدينة وتجاورها بازيليك كبيرة، وعثرنا في الموقع على بازيليك هي على الأرجح الأقدم في بيروت».
على مقربة من الجدار الضخم تبرز آثار البازيليك، أو الكنيسة ذات الممرات الثلاثة التي دمرت إثر زلزال عام551 الذي لم تسلم منه بيروت. تشرح كريستين مطر بعينو، المسؤولة عن الحفريات الأثرية في موقع اللاندمارك، أن «الكنيسة المكتشفة كبيرة، فطولها يصل الى 33 متراً وعرضها الى 21 متراً، وكان سقفها مغطى بالقرميد، ولكنه انهار تماماً بسبب الزلزال، فوقع على أرضيتها المزينة بالفسيفساء. وعثرنا في داخل الكنيسة على أختام زينت بالصليب، ما يشير إلى استعمال الكنيسة في الفترة البيزنطية». وتنفرد البازيليك بتوجيه حنيتها نحو الشمال، بدل الشرق. وهذا ما يدفع سيف الى القول «بأنها تعود الى القرون الاولى للمسيحية، وقبل أن يحدد مجمع نيقيا الشكل الهندسي للكنائس وتوجهها. وهذا يعني أن بيروت اعتنقت المسيحية قبل أن تصبح هذه الاخيرة الديانة الرسمية للامبرطورية الرومانية الشرقية». وبذلك، تكون بازيليك بيروت أقدم كنائس الشرق. كأن هذه المكتشفات لم تكن تكفي لإعطاء موقع اللاندمارك تفرّده الكبير من الناحيتين الأثرية والتاريخية، فأتت الحفريات لتزيد من أهمية المكتشفات. ففي العقار نفسه عثر على قبور إسلامية يعود جزء منها الى الفترتين الأموية والعباسية، ما يجزم بأن بيروت اعتنقت الدين الاسلامي أيضاً في قرونه الاولى. وتؤخر المعالم المكتشفة انتقال السلطة في المدنية من الامبراطورية البيزنطية الى الحكم الإسلامي. ويشرح سيف «ان البنية التحتية للمدينة من منشآت مائية، وخزانات المياه، والطرقات، وأقنية المياه المبتذلة تعود في مجملها الى الفترة الرومانية، ولكن استعمالها بقي حتى في الفترة الأموية».
أهمية المكتشفات في موقع «اللاندمارك» وضخامتها دفعت بعلماء الآثار الى رفع طلب استملاك العقار لمصلحة المديرية العامة للآثار، وذلك بهدف تحويله لاحقاً الى موقع أثري ــ سياحي يبرز تاريخ العاصمة في الفترات الرومانية ــ البيزنطية والاسلامية، وخاصة أن الكنيسة المكتشفة هي الأقدم في بيروت، وإن أثبت أن المبنى المكتشف هو مدرسة الحقوق. ويقول سيف «تناقشنا كثيراً مع أصحاب العقار حول مصير الآثار، ولكن دمجها في العقار غير ممكن بسبب عمق مواقف السيارات التي يريدون إنشاءها. ولكن، لكي يحافظ على حقوق المالك، يتضمن طلب الاستملاك بند التعويض عليه في سعر العقار أولاً، ثم في كلفة الحفريات الأثرية التي امتدت على سنتين ونصف السنة».
وهل وافق أصحاب العقار على طلب الاستملاك؟ ما من جواب واضح حتى الآن. ولكن بحسب القانون اللبناني، وكما جرى في السابق، يمكن صاحب العقار أن يطلب خبيراً من خارج إطار مديرية الآثار لدراسة المعالم المكتشفة وتقديم تقرير علمي فيها، وعلى هذا الاساس قد يرفض قرار الاستملاك ويطعن فيه أمام مجلس شورى الدولة.
يمتلك مشروع «اللاندمارك»، الواقع في العقار 1520 ــ الباشورة، مجموعة من المستثمرين الكويتيين واللبنانيين، بينهم حمد محمد عبد العزيز الوزان والشيخة سعاد حمد الصالح الحميضي وأحمد عفيف بعدراني وزياد إبراهيم الشعار وصلاح الدين الدباغ وشركة «أنجفة» العقارية. وقرر المستثمرون إنشاء مشروع مساحته 7700 متر مربع، ويمتد في إحدى أكثر المناطق المفصلية في العاصمة: فهو على تقاطع شارع المصارف والسرايا الحكومية من جهة، ووسط بيروت من جهة ثانية. وتصل كلفة الاستثمار في المشروع المعروف الى 300 مليون دولار. أنجز تصميمه المعماري الفرنسي جان نوفيل، ويسوّق له على أنه مدينة متكاملة. فالمساحة المتوقع إنشاؤها تصل الى 150.000 متر مربع، ويرتفع البرج الاساسي فيه الى 43 طبقة! بالطبع يطرح السؤال المنطقي، كيف تُدفع كل هذه المبالغ في الاستثمارات من دون تحديد أهمية الآثار الدفينة في أرض العقار؟ وكيف تنجز الدراسات قبل أن يطأ علماء الآثار أرض الموقع؟ الجواب يأتي من الواقع الذي عاشته بيروت منذ 1992. فبفضل جهود شركة سوليدير ومثابرتها دُمّر مبدأ المحافظة على الآثار في مكانها أولاً، ثم عمل بتفانِ عالِ على تدمير المواقع الأثرية المكتشفة على قاعدة أنها من الكماليات التي لا يمكن البلد أن يحافظ عليها. فدخل المستثمرون الى بيروت مرتاحي البال، معتقدين أن لكل الآثار المكتشفة حلاً.
المفاجأة أتت اليوم في طلب الاستملاك. فهذه هي المرة الأولى، منذ أكثر من 20 سنة، التي تتقدم وزارة الثقافة بطلب استملاك لعقار بهذا الحجم. فهل سيقرّ ويعمل به؟ الأسابيع والأشهر القادمة ستبرز ذلك، خصوصاً تركيبة الحكومة المقبلة ومن سيتولى حقيبة وزارة الثقافة فيها، إضافة الى تعيين مدير عام أصيل لوزارة الثقافة، إذ تبين أن جميع القرارات التي يتخذها الوزير يمكن الطعن فيها أمام شورى الدولة بسبب عيب عدم صدورها عن مدير عام الآثار.