خلال أشهر الحرب الطويلة في سوريا، نفّذت المجموعات التكفيرية الإرهابية، بما فيها «الجيش الحر» والإخوان المسلمون، العديد من الجرائم المذهبية والطائفية، لكنها كانت جزئية أو مفردة أو تستهدف تجمّعات شيعية منعزلة، أو تحدث في سياق قتالي أعمّ تحت عنوان «إسقاط النظام». وكلها جرائم بشعة، لكنها لا تقود إلى الصدام المباشر مع كتلة مذهبية كبيرة. إلا أن الهجمات الهمجية المصمّمة التي يشهدها ريف اللاذقية، منذ ثلاثة أيام، تشكّل إعلاناً صريحاً للشروع في استراتيجية الحرب المذهبية الشاملة؛ فالقرى المستهدفة في ريف اللاذقية لا تشكّل أهدافاً عسكرية بذاتها، ولا تحقق أهدافاً عسكرية تالية، ولا يمكن المسلحين السيطرة الدائمة عليها. وهي ليست قرى منعزلة، بل تنفتح على مناطق الكثافة السكانية للعلويين. وإذا كانت موازين القوى لا تسمح للإرهابيين، بحال من الأحوال، بتحقيق شعار «تحرير الساحل»، يغدو هذا الشعار، إذاً، مجرد غطاء للقيام بغزوات مذهبية ضد مدنيين علويين، بروح الإبادة الجماعية بالذبح والخطف والتعذيب والاغتصاب والسبي، ودفع السكان إلى النزوح الجماعي، تحت وطأة الهلع.
هذا هو، إذاً، عنوان انتقال الملف السوري إلى الأيدي السعودية: إشعال الحرب الصريحة ضد «الطائفة العلوية». وإذا كان هذا النوع من الحروب ينسجم، كلياً، مع العقلية الوهابية الإجرامية السوداء، فإنه يرمي إلى تحقيق الأهداف الآتية:
أولاً، ضرب ما يعتبره السعوديون المعقل الاجتماعي الصلب للنظام، وترويعه، وتحطيم حياته وأمانه، والفتّ في عضده، وكسر صلابته، ودفعه إلى الخوف والضغط السياسي الداخلي على النظام؛ ثانياً، ملاقاة الضربات الإسرائيلية لسواحل اللاذقية المستمرة لتدمير واردات السلاح ومخازنه وتجميد حركة القوات السورية؛ ثالثاً، شل حركة الميناء بوصفه المنفذ التجاري والتسليحي الرئيسي للدولة السورية في ظروف الحرب؛ رابعاً، زعزعة الاستقرار الاجتماعي السياسي في المناطق الأكثر أمناً واستقراراً في البلاد؛ خامساً، ضرب معنويات قسم ليس صغيراً من ضباط الجيش العربي السوري وجنوده على الجبهات المنتشرة في البلاد من خلال إثارة مخاوفهم على عائلاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وأعراضهم وممتلكاتهم؛ وسادساً، والأهم، تحطيم الوعي الوطني السوري اللاطائفي في صفوف المكوّن العلوي، ودفع العلويين إلى الرد من خلال ميليشيات طائفية، تقوم بعمليات انتقامية من الصنف التكفيري الإرهابي نفسه، والتوصل إلى تحقيق الهدف السعودي الأساس، ألا وهو إشعال حرب طائفية في سوريا.
لا تختلف العقليتان الوهابيتان المجرمتان في كل من الدوحة والرياض، ولكن الأولى جرى «تطويرها» لتتزين بمشروع سياسي عماده الأول الإخوان المسلمون في سياق خطة إقليمية، ليست سوريا ــــ على أهميتها المركزية في المشروع ــــ سوى جزء من كل يشمل العالم العربي. وفي تقديري أن ذلك المشروع، بما قُيّض له من علاقات وتنظيمات ووسائل سياسية وإعلامية الخ، ربما كان قادراً على التضليل وتحقيق إنجازات لولا اصطدامه بالصخرة السورية، أما الوهابية السعودية الفظة المعتمدة، كلياً، على الأدوات الإرهابية المجردة، فليس في جعبتها مشروع ولا سياسة ولا تنظيمات ولا إعلام، بل تحطيم سوريا والمقاومة وإيران، وسلاحها الرئيسي هو اشعال الحروب الطائفية باستخدام مجموعات تكفيرية إرهابية تعمل بالقطعة والغرائز. وهكذا، فنحن، مع الوهابي المتأمرك، بندر، نكون قد وصلنا إلى مرحلة جديدة خطيرة جداً من الحرب المستمرة ضد الدولة السورية.
النقطة الجوهرية التي ينبغي إبرازها، هنا، بوضوح، هي الآتية: إن مخطط بندر الإجرامي لإشعال الحرب الطائفية الصريحة في سوريا، يحظى بدعم كامل من واشنطن، وبتغطيتها السياسية لجرائم الإبادة الجماعية. ويظهر تاريخ الأميركيين، بلا مراء، أن السياسة الأميركية لا تتضمن أي بعد أخلاقي، وأن الإجرام، بكل أشكاله، هو جزء لا يتجزأ من عقيدتها السياسية والعسكرية.
السعودية دولة تقوم، ببنيتها، على وهابية متعصبة قبلية تتساوى، كلياً، مع العقيدة الدينية ـــ الحربية لليهودية المقاتلة، المؤسّسة على اعتبار قتل «الأغيار»، والتنكيل بهم، ومخالفة كل وصايا الله بشأنهم، أمراً شرعياً من صلب العقيدة الدينية، وهو ما يجمعها، في العمق، مع العقيدة الإسرائيلية والأميركية. وهذه الدول الثلاث هي مصدر الشر والإرهاب على مستوى العالم كله.
وهذه العقيدة لا تتعارض، بل تستكمل العقيدة البراغماتية الأميركية؛ فأفظع الشرور، عند البراغماتيين، مبرر ما دام يمكنه تحقيق الأهداف السياسية المتوخاة. واقتراح بندر لإشعال الحرب ضد العلويين بوصفهم «طائفة»، وما قد ينتج منها من إضعاف النظام السوري وجلبه نحو تسوية بالشروط الأميركية الاسرائيلية، ملائم تماماً لاحتياج الأميركيين للذهاب إلى المفاوضات مع الروس من موقع أقوى يتضمن التلويح بمرحلة جديدة من الحرب في سوريا، عنوانها طائفي صريح، فج وإجرامي، ومفتوح الاحتمالات على الأسوأ.