اللاذقية | إلقاء اللوم كلّ على الآخر هو العنوان العريض لأحاديث المشاركين في القتال داخل قرى الريف الشمالي للمدينة الساحلية. «هؤلاء تركوا الحواجز وهربوا عند أول رصاصة أطلقت في القرية»، جملة قالها أحد جنود الجيش السوري. «نزح الكثير من المدنيين. ليرسلوا عائلاتهم إلى المدينة وينجوا بها، إنما لمَ نزح بعض الرجال مع عائلاتهم وتركوا قراهم يعيث بها الغرباء فساداً؟»، يتساءل أحد عناصر «كتائب البعث». «لقد انشقّ 45 عنصراً من الجيش السوري»، هذا ما أربك اللجان الشعبية، بحسب تعبير أحد عناصرها. فيردّ آخر: «انشق 15 عنصراً من الجيش فقط، وكل من يتحدث عن أعداد أكبر يحاول أن يغطي على جبنه وتخلّيه عن موقعه على حواجز حماية قريته». إذاً الكلّ يضع اللوم على الكلّ. إنما الحقيقة الأوضح هي جثامين 21 شهيداً من الجيش السوري داخل المستشفى العسكري في اللاذقية منذ بدء الاشتباكات في ليلة القدر، بالإضافة إلى عشرات الجرحى. طبيب في أحد مشافي المدينة عبّر لـ«الأخبار» عن ذهوله لبشاعة المجازر المرتكبة بحق المدنيين الواصلين إلى المستشفى، فقال: «عملت في مستشفيات دمشق وريفها منذ بداية الأحداث الأمنية التي تشهدها البلاد. لم أرَ أقسى من مشاهد عشرات الجثث التي وصلت من الريف الشمالي. بعضها لنساء حوامل بُقرت بطونهن». عشرة آلاف مسلّح في قرى الريف الشمالي وحده، بحسب تصريح أحد الأمنيين لـ«الأخبار». إنما بعض أبناء القرى المستهدفة يؤكدون أن عدد المسلحين في الريف الشمالي يتجاوز 40 ألفاً! تعزيزات وصلت إلى الجيش من مناطق أُخرى في المدينة، أغلبها من قوات النخبة في الجيش السوري قلبت مجريات المعارك لصالح الجيش كلّياً. المدفعية لم تتوقف عن القصف، وسلاح الجو كان الحاسم في أكثر لحظات المعارك حراجة. المعركة ليست سهلة، ولا انتصارات سريعة رغم استرجاع قريتي عرامو واستربة ومرصدي انباتة والبارودة والحمبوشية. آثار معركة الساحل نفسياً على معنويات الجيش السوري كانت لها أولويتها لسرعة وصول التعزيزات، فإقلاق راحة العسكريين من أبناء الساحل المقاتلين على كل الجبهات في الداخل، جعل الجيش يفرض استنفاراً في ريف اللاذقية، فيما يبدو أن هذا هو المُراد من عملية الاجتياح الأشبه بالانتحارية، وليس تحرير الساحل أصلاً. ثمانية قرى صغيرة انكشفت المجازر المروعة فيها بعد اجتياحها من قبل عناصر تنظيم «دولة العراق والشام الإسلامية»، ما أسفر عن استشهاد اكثر من 150 مواطناً، معظمهم من الأطفال والنساء. ومن هذه القرى: بارودة وبو مكة وأوبين، بالإضافة إلى قرى الخراطة واستربة وبرمثة وبلوطة التي لم ينجُ منها أي من سكانها الذين يقدرون بالعشرات. أما انباتة فقد نجا منها 9 من أبنائها فقط، يروون العجب عمّا شاهدوه، فيما شهدت قرية عرامو معارك كر وفر عنيفة حتى استطاع الجيش استعادتها نهائياً. الجيش لا زال يتقدم ببطء، إنما انتقلت المعارك إلى محيط منطقة سلمى حيث يتمركز المسلحون، والذين عُرف من قتلاهم أعداد كبيرة ينتمون إلى جنسيات مختلفة. التقدم الأفقي للجيش على محاور قرى كفردلبة ودورين وجبل النوبة والدغمشلية حوّل الجيش من الدفاع إلى الهجوم على هذه النقاط الساخنة التي يسيطر عليها المقاتلون الإسلاميون، بعد انقلاب مجريات المعارك خلال اليومين الماضيين ضد آمال المعارضة المسلحة.
لا بيئة حاضنة... إنما نازحون!

أصابع الاتهام طالت، كالعادة، النازحين من بقية المحافظات المتواجدين ضمن أراضي المدينة الساحلية. لا بيئة حاضنة في اللاذقية لأي جوّ معارض ذي تأثير، إنما قدوم النازحين فرض تغييراً ديموغرافياً مخيفاً بالنسبة لأهالي المدينة، حيث يعامَل النازح في الساحل على نحو لائق، رغم الخشية القائمة من احتمال كونه قريباً لمسلّحين من أبناء الداخل. نازحو القرى الجديدة في ريف المدينة حدوا بالدولة إلى فتح مركز إيواء في مدرسة طلال ياسين في الرمل الشمالي. يمكنك هُناك أن تشهد المأساة من بدايتها. هاربون مضوا بملابسهم التي يرتدونها إلى أقرب فرصة للنجاة من بطش «المجاهدين». يروون الكثير عن «مقاتلين حاقدين لا يعرفون شفقة ولا رحمة». صراخ وبكاء الأطفال هو سيّد المشهد. الكثير من الاهتمام من قبل السلطات السورية، إلا أن النازحين لم يروا شيئاً من الاهتمام بعد، فلا زال المركز المفتوح على عجل يحتاج إلى الكثير من التنظيف والتجهيز. ينكر بعض النازحين الحال التي وصلوا إليها، معتبرين أن وجودهم في المركز لن يطول إلا أياماً، ريثما يستطيع الجيش استعادة قراهم وإعادتهم إلى بيوتهم. البعض الآخر يرفض العودة خشية اجتياح آخر، فما شهدوه لا يُنسى. الكثير من أهالي اللاذقية وقراها يعتبر أن القتل الطائفي الذي حصل في جبال الريف ليس إلا محاولة لجرّ الساحل إلى صراع طائفي، واستفزاز «أبناء الطائفة المحسوبة على النظام» لجرّها إلى الردّ والانتقام بمجازر مشابهة من نازحي الداخل المقيمين بينهم، ومن أبناء وسط المدينة، ما يمكن استغلاله إعلامياً كدليل جديد على «وحشية النظام ومؤيديه». ويراهن العقلاء من أبناء المدينة على وعي اللاذقيين، وتحصينهم ضد كل أشكال الاقتتال الطائفي، ولا سيما بوجود الجيش السوري والقوى الأمنية الذين يحاولون التواجد على كل بقعة من المدينة.

شائعات متنقّلة

الشائعات في المدينة هي السمة الظاهرة. الجميع يتوقع أن السيناريو الحاصل في الجبال سيتكرر داخل المدينة. لا أحد مقتنع أن العيد سيمرّ آمناً على أحياء المدينة. والمخطوفون الذين تتوعّدهم صفحات المعارضة بالتضحية فيهم على العيد يثيرون قلق اللاذقيين بشدّة. الدوريات الراجلة والسيّارة لا تتوقف في أحياء العوينة والصليبة والطابيات، ما يوحي بالمزيد من الشائعات. ورغم الأخبار المريحة عن تقدّم الجيش الذي لم يكتفِ باستعادة النقاط التي خسرها سابقاً، إنما استمر في التقدم إلى النقاط التي تمركز فيها مقاتلو «النصرة» و«دولة العراق والشام الإسلامية»، إلا أن أهل المدينة الهادئة يتبادلون كل جديد عن أخبار المجازر وضحاياهم، ما يغذي التوتر. ووقفة العيد شهدت حركة تسوّق من داخل الضواحي باتجاه سوق المدينة. ازدحام حذر شهده السوق، فالعيون متحفّظة ومتحفّزة تجاه الآخر، لا سيّما بعد إلقاء القبض على شبّان عدة من أحياء وسط المدينة، وفي ظل الحديث عن وجود العديد من الخلايا النائمة، إثر تغلغل النازحين في القرى والأحياء ذات الطابع الطائفي الواحد.
المدينة التي خطفت أنظار وسائل الإعلام في العالم، واعتبرها الإعلام الرسمي مجرد خبر عاجل، قد استطاعت أن تستفيق من الصدمة على خسائر فادحة، إنما ساد أجواؤها الحذر، خشية تحوّل معركتها إعلامياً إلى معركة البلاد المركزية، وصرف الأنظار عن إنجازات الجيش في ريف دمشق.