تدرك السلطات المستبدة أكثر من غيرها أن العنف (رغم أهميته بالنسبة لها) لا يضمن السلطة وحده مهما بلغت حدّته، لذا تبحث دائماً عن أدوات وأساليب وسياسات تضفي عليها المشروعية، محاولة تقنيع القمع والاستبداد بما يستره ويحصره في دوائر الحاجة إلى استخدامه، مع لغة تبقيه مسلّطاً وحاضراً كسيف فوق الرقاب.حين تسلّم الأسد الأب السلطة (1970)، حاول الاستناد إلى مشروعية داخلية جاءته بفعل قدرته على إقناع أغلب الأفرقاء السياسيين بتشكيل جبهة وطنية تقدمية، مدعومة بإجراءات سياسية واقتصادية خففت من يسارية القيادة السابقة للبعث وضيق أفقها الخارجي سياسياً، فاستخدم الأسد هذه الإجراءات وسيلة لضبط المجتمع إلى حين قيام حرب اكتوبر 1973 لتشكّل مشروعية خارجية للنظام بديلاً عن الداخلية، مستنداً إلى قوة التطلع للخارج (ضد إسرائيل والامبريالية) في الشارع السوري. وليبدأ النظام يتخلى عن مشروعيته الداخلية لصالح مشروعية خارجية لم تبخل بها المنطقة التي تعيش توترات وأزمات تسمح بالتعيّش عليها، بدءاً من تشكيل جبهة الصمود والتصدي بوجه سياسة السادات عربياً، وليس انتهاءً بالمقاومة والممانعة وتصدّر القضية الفلسطينية أحيانا بشكل فعلي من خلال دعم منظمات حماس والجهاد الإسلامي وأغلب الأحيان بشكل بلاغي احتفائي.
مع التآكل التدريجي للمشروعية الداخلية ازدادت حاجة النظام إلى المشروعية الخارجية التي بدأت تتزايد كلّما قلّت الأولى، فكان الدخول إلى لبنان عام 1976 أوّل الهروب إلى الأمام، لأنه «بقدوم عام 1976 كان التناقض بين ديمقراطية النظام الاجتماعية وتسلطيته السياسية قد حلّ بدوره لمصلحة التسلطية. كانت الديمقراطية الاجتماعية تلك منفصلة عن رؤية وفكر ديمقراطيين، لذلك لم تلبث أن استنفدت ذاتها خلال عقد واحد تقريباً، وأخذت تتآكل الأكثرية الوطنية الضعيفة التشكّل وغير المستقلة عن النظام»، كما يقول الكاتب ياسين الحاج صالح، وهو ما دفع الأسد الأب للعودة إلى الداخل لإطلاق حملة لمكافحة الفساد بشعارها الشهير «من أين لك هذا؟»، الذي عجزت السلطة عن تطبيقه لارتباطه بجوهر النظام الذي اعتمد «الفساد في خدمة الاستبداد» احدى أدوات حكمه، لأن محاربة جدية وحقيقية للفساد ستؤدي إلى هزّ أسس الحكم، وهو أمر لم يكن وارداً نهائياً.
هذه اللحظة كشفت أمرين: مدى تضخم المشروعية الخارجية على حساب الداخلية التي تُركت للعنف وحده، ومدى ارتباط عودة النظام للداخل بالأزمة فقط، وهو أمر سيتكرر دوماً، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي (الغطاء الخارجي للنظام) ودخول الاقتصاد في اختناق مفتوح لجأ الأسد الأب إلى إطلاق ما عرف بقانون الاستثمار رقم (10) مع سلسلة تغييرات داخلية، أدّت في نهاية المطاف إلى إزاحة حكومة الزعبي التي بقيت في الحكم ثلاثة عشر عاماً، وبلغت رائحة فسادها الأصقاع. الأمر الذي يعكس مدى ابتعاد الأسد الأب عن معرفة شؤون الداخل، ومدى رهن هذا الداخل لمشروعية العنف مع الاستعاضة عنه بمشروعيات خارجية لا تنجح دون أن يكون لها صدى داخلي جماهيرياً.
على نفس السياسة سار نظام الابن، الذي أطلق «مشروعاً إصلاحياً» للتغطية على التوريث وضبط الداخل، ليأتي سقوط بغداد (2003) ككابح أمام الداخل. وهو ما استثمره النظام حين وقف ضد احتلال بغداد مؤيداً مقاومة المحتل، معززاً الأمر بحرب تموز 2006 ليبدأ النظام عملية الاستناد إلى الخارج بوجه الداخل، مغيّباً عملية الإصلاح التي لم تكن أكثر من محاولة لنيل المشروعية وتجديدها، وهو ما تجلى في الاعتقالات التي جرت في الداخل السوري بعد خروج النظام من أزمته عام 2007.
إلا أن تناقض النظام بين دعاية إصلاحية وتطبيق عملي يؤدي إلى إفقار العديد من السوريين بفعل سياسات اللبرلة التي تمّ اعتمادها، مع زيادة القمع السياسي ستؤدي إلى الانفجار الحاصل الآن، لتعود السلطة وتلعب على خطاب الإصلاح مرة أخرى بمواجهة الأصوات المطالبة برحيل النظام.
في المقارنة بين العهدين: سنلمس التشابه المذهل بين: لحظة تأسيسية أولى تعتمد مشروعية الداخل، ليتم الانتقال بعد ثلاث سنوات تماماً إلى مشروعية الخارج (حرب اكتوبر 1973 مقابل سقوط بغداد واستثمار الحدث داخلياً)، وتجديد المشروعية بعد ثلاث سنوات أخرى (الدخول إلى لبنان 1976 مقابل حرب 2006) ليدخل النظام في عمق تناقضاته بين الداخل والخارج بعد عشر سنوات من اللحظة التأسيسية (انفجار الثمانينيات مقابل الانتفاضة السورية 2011)، مع فارق أن نظام الأب صنع الأحداث وكان فاعلاً أساسياً في المنطقة، في حين أن الثاني استثمرها فقط وكان فاعلاً ثانياً لحساب دول أخرى.
الآن تعمل السلطة على حلّ مأزقها الداخلي بالعنف المطلق مع إعادة بناء أوراقها الخارجية (حزب الله، الجهاد الإسلامي، حزب العمال الكردستاني، محاربة الإرهاب، غطاء دولي ممتد من بكين حتى موسكو وطهران وجنوب لبنان، التحوّل إلى دولة مقاومة...). وهذا أمر يتمّ في النظام ككلّ، بغضّ النظر إن بقيَ الأسد أم لا، ليبقى السؤال: هل يتمكن النظام من تجديد مشروعيته استناداً إلى الخارج مرة أخرى دون الداخل؟
الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بالقوى الضدية التي تكمن في المجتمع والتي يمكن أن يحاكيها هذا البعد الخارجي بتغليبها قضايا بعيدة على حساب الداخل، مضافاً إليها ضعف الثقافة الديمقراطية (يتجلى الأمر في تفويض السيسي شعبياً بقيادة المرحلة الانتقالية!). لأنه مهما بلغت حدة العنف لا يمكن لسلطة أن تضبط المجتمع ككل، إلا من خلال استغلالها للوعي المكوَّن شعبياً ومحاكاته، موهمةً الداخل بأنّها تلبي رغباته!
* شاعر وكاتب سوري