رغم أن الإصلاح والتحديث كانا مطروحين منذ عقود، وخصوصاً بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، ظل الطلب قائماً لأن الإصلاح لم يتحقق، وما جرى خلال العقد الأخير هو إطلاق يد الليبرالية تحت شعار تحديث الاقتصاد، وتحديث الإدارات. وهو الأمر الذي قاد إلى الانفجار الاجتماعي الذي ما زلنا نعيشه، والذي وصل إلى حدّ طرح شعار إسقاط النظام. ومع الانفجار عادت وعود السلطة بتحقيق الإصلاح، وتقدمت خطوة بطرح قوانين تتعلق بالعملية، وقبل ذلك رفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة، وزيادة محدودة في الأجور لا تلبي الطموحات، حتى ما حفلت به الدراسات التي أعدّتها الدولة، والتي أشارت إلى مضاعفة الأجور أضعاف ما هي عليه لا رفعها بنسبة الثلث تقريباً.وإذا كان قانون الأحزاب هو آخر القوانين التي تعتمدها السلطة لتحديث بنية الدولة، فإن متابعة مجمل القوانين التي صدرت توضح أن هذه القوانين لن تحدث تغييراً يسمح بالقول إن الإصلاح قد تحقق، وخصوصاً في وضع بات الشعب فيه يطالب بالتغيير لا بالإصلاح. فمثلاً القانون الذي صدر بعد وقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية لا يفعل سوى إعادة إنتاج الأحكام العرفية من خلال ربط الممارسة بالضابطة العدلية التي تقرر الاعتقال والمحاكمة، لا بالقانون الطبيعي. وقانون «السماح» بالتظاهر كان قانوناً لمنع التظاهر من خلال ربط الموافقة بوزارة الداخلية، التي من حقها الرفض دون أسباب وجيهة لا يحددها القانون أصلاً.
وقانون الأحزاب الجديد لا يختلف عن ذلك. فإذا كانت السلطة هي التي تحدد الحزب «الرسمي» من خلال ضمه إلى «الجبهة الوطنية التقدمية»، ويعطى الامتيازات المحدَّدة، فإن قانون الأحزاب الجديد يربط الاعتراف بالأحزاب بلجنة يرأسها وزير الداخلية وثلاثة أعضاء يسميهم الرئيس، وخامس قاض يسميه رئيس محكمة النقض. وبالتالي تكون السلطة التنفيذية هي الحاكمة في ما يتعلق بالأحزاب، وهو الأمر الذي يُخضع الأحزاب لسلطة تنفيذية ربما هم معنيون بتغييرها وتحقيق سياسات أخرى مختلفة، من خلال الانتخابات، أو أنها لا تتوافق مع ما يطرحون مما يجعلها ترفض الاعتراف بهم.
عادة تتأسس الأحزاب عبر الإخطار، أي من خلال تقديم إخطار إلى وزارة الداخلية بتأسيس الحزب، ويكون الفصل للقضاء في ما إذا كان هناك اعتراض على مبادئه. وفي هذه الوضعية، حيث يكون القضاء مستقلاً لا خاضعاً كذلك للسلطة التنفيذية، يمكن القول بوجود حرية للأحزاب، وبمساواة بينها. أما أن تصبح السلطة التنفيذية هي المنوطة بالاعتراف بأحزاب «من لون آخر»، فهو ما يجعل النتيجة واضحة، وتتمثل في الاعتراف بأحزاب «متكيفة» مع السلطة ذاتها، ورفض أحزاب تختلف مع «الحزب الحاكم» في السياسات الاقتصادية أو الخارجية أو الأمنية أو الوطنية.
فمن يمكن قبوله هو الحزب المتكيف مع السلطة، الذي يطرح ما يناسبها، ما دامت السلطة ذاتها هي التي تقر أو تمنع نشوء الأحزاب. هنا السلطة ليست محايدة، هي طرف يمثل حزباً، وبالتالي ليس من حقه إعطاء الحق أو منع الحق في إنشاء الأحزاب. وهو في تساوٍ مع أي حزب يمكن أن ينشأ كما يفترض المنطق الديموقراطي، وليس المقرّر لحق الأحزاب.
والغريب في القانون أنه يعترف بأحزاب الجبهة أحزاباً «مرخصة»، رغم تناقض بعضها مع القانون. فالقانون يشير إلى أن شروط الاعتراف تتضمن ألا يكون الحزب فرعاً لحزب غير سوري، وهذا ما لا ينطبق على حزب البعث ذاته، الذي هو حزب «عربي»، و«خاضع» لـ«قيادة قومية». طبعاً دون أن نشير إلى أن حزب البعث لا يزال يتمتع بالامتياز الأهم من خلال المادة الثامنة في الدستور التي تجعله القائد للدولة والمجتمع، ومن خلال امتياز اختيار المرشح للرئاسة قبل أن «ينتخبه» مجلس «الشعب». وبالتالي فإن كل الأحزاب التي يمكن أن ترخّص لا بد من أن تكون في ظل هذا الحزب وتحت قيادته.
بالتالي، إذا حاولنا تقويم مجمل القوانين التي صدرت، والروحية العامة التي تصدر بها، نلمس أن السلطة تنطلق من «ترقيع» البنية السياسية لا أي شيء آخر. فهي تنطلق من استمرار سيطرتها، وتحسين شكل وجودها عبر انفراج سياسي جزئي، وأن كل ما يجري هو التفاف على المسألة الجوهرية التي تتمثل في أن هذا الشكل السياسي من النظم بات في تناقض مع المجتمع. والمنطق العام الذي يحكم كل هذه الخطوات هو الصيغة التي حاولت نظم عربية تحقيقها قبل أكثر من عقدين بعد انتفاضات لم تكن قادرة على تحقيق التغيير. لقد حسنت الفئة الحاكمة في مصر النظام السياسي منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، وأصدرت قوانين تتعلق بالصحافة والأحزاب، والانتخابات. وفعل النظام الأردني ذلك بعد انتفاضة نيسان سنة 1989، وحاول النظام الجزائري أوسع من ذلك فاصطدم بانتصار الإسلاميين. وتقدم النظام المغربي أكثر من ذلك من خلال إنشاء المعارضة للحكومة التي ظلت خاضعة لقرار الملك، لكن النظم ظلت هي هي، وها هي الانتفاضات تدق أبوابها رغم كل «الديموقراطية» التي تحققت.
بمعنى أن السلطة في سوريا تحاول اليوم بعد أكثر من عقدين اعتماد هذه «الروشتة»، وخصوصاً بعدما أصبحت الثورات هي لغة الشعب، وإسقاط النظم هو مطلبه. فكيف يمكن أن يُصلح نظام بات عبئاً على الشعب؟ وما هي ممكنات إصلاحه وهو العقبة التي يتلمسها هذا الشعب؟ لقد نجحت النظم العربية الأخرى في «الإصلاح»، وربما في تأخير الانهيار حين كان ذلك ممكناً، حيث لم تكن الأزمة التي تعيشها المجتمعات تطرح مسألة الإسقاط، لكن حين تصبح المسألة هي النظم ذاتها فكيف يمكن أن تصلح؟
إصلاح متأخر؟ كثير جداً، وبلا معنى؟ بالتأكيد. فلا إلغاء الأحكام العرفية ألغاها، ولا قانون الأحزاب سيؤسس أحزاباً، ولا الشعب يهتم بكل ذلك. فقد انتظر طويلاً عملية الإصلاح، وأمل في محطات عديدة أن تجد السلطة حلاً لمشكلاته، وحين تراكمت هذه المشكلات إلى حد شعوره بالعجز عن التحمل فقد الأمل بكل إصلاح. هذه هي اللحظة التي أسست لانفجار كبير بات يطرح أفقاً آخر، وهو الأمر الذي جعله ينتقل إلى المطالبة بإسقاط النظام. وهو هنا يتلمس أن السلطة لم تعد تُصلح. لهذا دخلنا في زمن يتجاوز الإصلاح. ولهذا سيبدو الإصلاح هامشاً في صيرورة تغيير كبيرة.