لقد أوضحت المرحلة السابقة أنّ البورجوازية المحلية عاجزة بقواها الخاصة عن انجاز المهمات الوطنية الديموقراطية، وأنه لا بد لإنجاز التغيير الوطني الديموقراطي من دور فاعل ورئيسي للطبقة العاملة وأحزابها. ذلك بالتشارك والتعاون والتحالف مع باقي الطبقات والفئات الاجتماعية وأحزابها ضمن تحالف وطني عريض، والحيلولة دون انحراف المجتمع والوطن في طريق التطور التابع والملحق بالبلدان الإمبريالية، لكونه لا يحل أياً من المهمات التاريخية للشعوب الفقيرة، بل يخدم مصالح المراكز الإمبريالية وبعض البورجوازية المحلية وينتج الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إنّ الطبيعة الطبقية الرأسمالية للنظام، واستغلاله للدولة والمجتمع، وتسببه في نخر الدولة وقوانينها بآليات الفساد ومصادرة الحريات السياسية وإلحاق السلطات القضائية والتشريعية بالسلطة التنفيذية، أدى (بالتكامل مع دور البورجوازية السورية المتحالفة معه) إلى انسدادات وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية مستفحلة.
إن جملة العوامل المذكورة تستوجب التركيز على ضرورة تكثيف العمل من أجل بناء اقتصاد تنموي اجتماعي يحقق العدالة والمساواة في توزيع الثروة الوطنية والناتج الإجمالي، ويحمي مستويات معيشة الطبقة العاملة وصغار الفلاحين والموظفين وكل العاملين بأجر في قطاع الدولة وخارجه، ويساهم في إيقاف تدهورها المستمر، ويوفر فرص عمل كافية، ويحقق رفاه المواطن في مجال التغذية والتعليم والصحة والسكن. إن تنمية القاعدة المادية للإنتاج وتطوير قوى وعلاقات ووسائل الإنتاج، والاستثمار الأمثل للثروات الطبيعية والبشرية والعلمية، وتحقيق تنمية بشرية مستدامة، هو أحد الأهداف الأساسية، ويقع على عاتق الدولة دور اقتصادي وتنموي واجتماعي يجب أن تتحمله. لكن جملة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي رعتها رأسمالية الدولة وبورجوازيتها البيروقراطية خلال العقود الماضية، أدت إلى تركيبة اجتماعية ـــ طبقية جديدة. لقد اشتغلت السلطة على بناء تحالف اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي جديد، تتنكر فيه لقطاعات واسعة من الطبقات والفئات الشعبية التي كانت تأخذ بعض مصالحها وحقوقها في الاعتبار، وتعتمد عليها كقاعدة شعبية، تتحاشى غضبها، وتهتم باستمالتها وكسب ولائها، عبر الاستجابة لمصالحها وحقوقها بالحدود الدنيا. وفيما يتسارع هذا التنكر لتلك الطبقات والفئات ويشتد إفقارها وسحق مستويات معيشتها، يزداد الاعتماد والتشبيك مع فئات وشرائح من البورجوازية الكبيرة السورية، كذلك يزداد التشابك والترابط مع قوى الرأسمال الكبيرة، العربية والعالمية، الأمر الذي يحوّل اقتصادنا الوطني إلى اقتصاد تابع يفتح مجتمعنا على الأزمات العالمية، ويهدد بأزمات اجتماعية وسياسية عميقة، تطاول آثارها الكارثية غالبية الفئات الاجتماعية. إن تحقيق تنمية مكثفة وجدية للاقتصاد السوري أمر ضروري وممكن فعلاً، بحكم تنوع وغنى بلادنا بالثروات وتوافر القوى العاملة الحية الماهرة، وهذا يشترط تحرير قوى المجتمع، ومحاصرة وإزاحة القوى الطفيلية والبيروقراطية الفاسدة والمعيقة للتطور، ومحاربة الفساد والنهب البيروقراطي للثروة الوطنية العامة، وكل أشكال المحاباة الاقتصادية والتهرب الضريبي الذي يمارسه بشكل رئيسي أصحاب الثروات الكبيرة.
إن ضبط وتطوير السياسات الاقتصادية والتنموية الصناعية والزراعية والبشرية والعلمية هو إحدى المسؤوليات العليا للدولة ويتعين على كل القوى الوطنية الاجتماعية والسياسية أن تراقب وتنقد وتمارس كل ما هو ضروري لتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية التي تحقق مصالح الشعب السوري وتضعه في مصاف الدول المتطورة. كذلك إن تحقيق مستقبل إنساني يتمتع فيه السوريون بأوسع إطار من الحرية، ويحقق إشباع حاجاتهم المادية والروحية، لن يكون إلا بإقامة نظام ديموقراطي يقضي على الاحتكار السياسي والاقتصادي، وينهي اغتراب الإنسان عن شروط وجوده وعمله واستلابه لحاجات الحياة الأساسية.
أخيراً: تشكّل مهمة تحرير الأراضي السورية المحتلة، بكافة الوسائل والطرق الممكنة مسؤولية وطنية عليا، وكذلك تُعتبر مناهضة المشاريع الإمبريالية، ولا سيما الأميركية التي تستهدف السيطرة على المنطقة وعلى وطننا السوري ضمناً، لتشديد نهب ثرواتها وتعميق ضعفها وتخلفها عبر تفتيتها القومي والديني والطائفي، شرطاً لازماً لحماية حق الشعب بالسيادة على بلاده ومقومات وجوده ومشروع نهضته. ولا نشك أبداً في أن مواجهة المشاريع الإمبريالية بقدر ما هي مطلوبة وضرورية، تظل غير كافية بحد ذاتها؛ إذ لا بد من ربطها بصورة عضوية بالتحول الديموقراطي، بحيث يعزز كل منهما الآخر. وهذا بالضرورة يحتاج إلى العمل من أجل بناء تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة ومستقلة عن شروط هيمنة رأس المال العالمي ومؤسساته الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي، منظمة التجارة العالمية...).