تتوزع قطع الفسيفساء الرائعة الجمال على جدران قاعة موريس شهاب، التي بافتتاحها استُكمل الطابق الارضي في المتحف الوطني، بحضور كل من وزير الثقافة، المهندس غابي ليون، ورئيسة المؤسسة الوطنية للتراث، منى الهراوي، وتوافد عدد كبير من محبي المتحف الوطني.
قبل الحرب، كانت القاعة تحمل اسم قاعة هيجيا تيمناً بالآلهة الرومانية التي تتوسطها، لكنّ الحرب سببت أضراراً كبيرة للقطع المعروضة فيها، وخاصة الفسيفساءات المثبتة على الجدران، فما كان من القيمين على المتحف إلا أن أخروا افتتاح الصالة لتأمين كلفة الترميم. فطال الانتظار حتى سنة 2010، حينما قررت المديرية العامة للآثار تأمين المبلغ الضروري لترميم القطع التي سلمت لمكتب إيزابيل سكاف.
وتشرح مديرة المتاحف في المديرية العامة للآثار آن ماري عفيش «أن الهدف لم يكن إعادة افتتاح القاعة كنسخة عما كانت عليه سابقاً، بل تأهيلها وتجديدها. لذا، أعيدت اليها القطع الاساسية، وأضيفت اليها قطع مكتشفة حديثاً في حفريات بيروت. وبما أن المتحف يُعنى بتاريخ كل الوطن، اختيرت قطع من كافة المناطق اللبنانية: من طرابلس الى شحيم، فوادي العمد وصور وجبيل والجية... وأتت التحف لتكمل وتتماشى مع جملة المعروضات في الطابق الارضي. ففي القاعة تماثيل كبيرة وقطع فسيفساء تعود الى الفترات الهلنستية والرومانية والبيزنطية». وذكريات المتحف الوطني لا تحد بالماضي البعيد، بل تأخذ الحرب الاهلية حيزاً كبيراً منها، لأنه حينها كان المتحف معبراً وساحة قتل. وهذا ما دفع بأحد أفراد الميليشيات الى استحداث فجوة في فسيفساء «الراعي الصالح» الموضوعة على الحائط الشمالي، الذي يشرف على الشارع العريض. هكذا، ولسنين طويلة جلس افراد الميليشيات وألصقوا ظهورهم بإحدى اهم القطع الاثرية في البلد ليقتلوا المارة على الطريق. تخليداً لهذه الذكرى المريرة، ترك القيمون على المتحف الفجوة في الفسيفساء شاهداً على ذلك الزمن البشع.
وأُطلق على القاعة اسم منقذ المتحف ومديره السابق: موريس شهاب. وكان فريدريك الحسيني المدير العام للآثار السابق هو من عمل على الحصول على المرسوم الجمهوري، لتحويل اسم قاعة هيجيا الى قاعة موريس شهاب، تكريماً له كأول مدير عام للآثار في لبنان، منقذ للمتحف خلال الحرب الاهلية. فالامير موريس شهاب شخصية لا يمكن لأي فرد أن يهتم بالآثار اللبنانية دون ان يعرف عنها. فالامير هو ايضا من المشرفين على إقامة المتحف الوطني في بيروت، وكان له ما يزيد على الأربعين سنة من العمل في الحفريات، وله الفضل الكبير في العصر الذهبي للآثار في لبنان في ستينات القرن الماضي. ويُعرف الامير موريس شهاب أكثر من ذلك بعمله البطولي في إنقاذ قطع المتحف الوطني خلال الحرب الاهلية. ففي سنة 1975، وحينما تيقن شهاب من أن زمام الامور قد يفلت عن السيطرة، والمتحف واقع في مناطق مفصلية في بيروت، أقفل ابواب الصرح امام الزوار، وجهد مع زوجته وعدد قليل جداً من العمال في بناء جدران إسمنتية حول القطع الاثرية الضخمة والمهمة جداً، مثل ناووس أحيرام ونواويس صور وفسيفساء الحكماء السبعة. كما رُفعت كل القطع الاثرية التي كانت تزين الواجهات، وأنهت زوجته جردتها، ومن ثم حفظت في مستودعات المديرية العامة للآثار، التي أوصدت أبوابها بجدار إسمنتي عزلها عن العالم طيلة الحرب، فلم يعرف بمكانها السارقون والمخربون، وبقيت القطع النادرة محفوظة من السرقة خلفها، لكنها لم تسلم من المياه الجوفية التي غطتها، فأتى الضرر المهول من حيث لم يدركه احد. وفي جامعات الغرب، باتت طريقة المحافظة التي اعتمدها الامير شهاب في بيروت تدرس كإحدى الطرق الممكنة للمحافظة على المتاحف.
لذا، فتكريم الامير شهاب حق وصل ولو متأخراً، وهذه هي المرة الاولى التي يعطى فيها اسم شخص لقاعة في المتحف الوطني. لقد كُرّم الامير شهاب، لكن بقيت مساعدته الاولى ورفيقة دربه في الظل. فالاميرة اولغا شهاب كانت المساعد الاول للامير، وهي عملت على المحافظة على آثار لبنان في السراء والضراء. فقبل الحرب كانت السيدة اولغا تنشط في المتحف، وخلال الحرب كانت بجانب الامير حينما قرر ان يبني غرف الباطون للمحافظة على القطع الاثرية الكبيرة، وهي من أنجز الجردة للقطع التي رُفعت من الواجهات، ومن ثم احتفظت في بيتها بالمجوهرات الاثرية المذهبة التي كان يلبسها الملوك وأعادتها الى المتحف يوم استتبّ السلام... اولغا التي كانت في الظل، بقيت مع الاسف الشديد فيه...حتى اليوم.
قبل ساعات قليلة من افتتاح القاعة، كانت مديرة المتحف الوطني الدكتورة آن ماري عفيش تنظف بنفسها الفسيفساء «لتنقشع الالوان، ثم تحمل فرشاتها الصغيرة لتزيل الغبار، ومن ثم تأتي «العونة» من حراس المتحف ليرفعوا الغطاء عن التمثال وتلمع قاعدته. فالمتحف يعمل منذ شهور طويلة دون موظفين، إذ إنّ المديرة ليس لها من يساعدها، والحراس في القاعات لا يتعدى عددهم الثلاثة، لكن هذا لا يمنعهم من السير قدماً في مشاريع مستقبلية. ولأن تحديث المتحف لا يجري في القاعات فقط، عملت عفيش مع طلاب من الجامعة الاميركية في بيروت على ابتكار تطبيق للهاتف الخلوي يسمح للزائر بالتعرف إلى القطع ما أن يصورها. وتقول إن البرنامج الجديد «غير مستخدم بعد في الشرق الاوسط. فما أن تصور القطعة الاثرية حتى يبرز على شاشة الهاتف نص يشرحها. وهذه هي الخطوة الأولى، والعمل سيجري حالياً لإقامة تطبيق للهاتف الخلوي يشمل كل المتحف الوطني، ويكون بمثابة دليل للقطع».
في ظل الحزن والقلق اللذين يسيطران على البلد، تأتي عملية افتتاح قاعة المتحف كمقاومة لكل عمليات القتل، وللتأكيد على أن الحياة الثقافية مستمرة.