هو ليس فقط «أبو الزلف» في «شي فاشل»، ولا «إدوار» في «فيلم أميركي طويل»... إنّه أيضاً ـــــ لمن لا يعرف ـــــ عاشقٌ كبير لشكسبير، مولعٌ بقراءة كيركغارد وسارتر، ولديه بعض التحفظات على الطريقة اللبنانية في المزاح. المسرحي زياد أبو عبسي، الذي أضحك الناس على الخشبة، ورسّخ حضوره بشخصيات كوميديّة عبثيّة، هو في النهاية رجل في غاية الجديّة والرصانة. لسانه اللاذع يصدم كثيرين ممن يلتقيهم، إذ يسكتهم حين يمازحونه محذرين من وجود «محمودات» في المنطقة... في إشارة إلى شخصيّته الشهيرة في رائعة زياد الرحباني «فيلم أميركي طويل».
فبالنسبة إلى كثيرين، ترتبط صورة زياد الآخر، بشخصيّة إدوار، شخصية المسيحي المصاب برهاب المسلمين، كما أداها في مسرحية «فيلم أميركي طويل»، لكنّ الممثل المتبحّر في الفلسفة وعلم النفس، والأستاذ الجامعي، يأسف لحال المتفرّج غير المحترف، الذي يخلط بين الشخصية والممثل... كما يستفزه بعض المتذاكين من الذين يخلطون بين المزاح والاستخفاف.
الممثل الخارج من وعكة صحية ألزمته المستشفى خلال الفترة الأخيرة، ولد عام 1956 في صيدا، لعائلة أصلها من بلدة راشيا الفخار الجنوبية. كانت الطفولة هانئة. «كنا نتمشى كثيراً، ونقضي أمسيات ساحرة عند درج الكنيسة الإنجيلية على طريق المية ومية». تلميذ المدرسة الإنجيلية، كره الرياضيات، لكنّه قرأ «أصل الأنواع» لداروين، و«جمهورية أفلاطون» وهو في الرابعة عشرة. كان يجمع «الخرجيّة»، ويستقل الباص من صيدا إلى ساحة رياض الصلح في بيروت، حيث يشتري الكتب من بائع يراعيه في السعر لصغر سنه. في ذلك العمر اليافع، بدأت تتكوّن ميول الصبي. في موازاة القراءات الفلسفية، بدأ محاولاته التمثيلية الأولى في حضن «جمعية كشاف لبنان»، التي انتسب إليها. حتى اليوم، لا تزال السهرات حول النار في المخيّم، حاضرة في ذاكرته ولم تفقد رونقها. «هي أحلى شيء في حياتي»، يقول.
الظروف هي التي أملت عليه خطواته الأكاديمية الأولى. في عام 1974، التحق بقسم المحاسبة والإدارة في «الجامعة اللبنانية الأميركية»، لأنّ مجموعه في البكالوريا خوّله ذلك، ولأنّه اختصاص سيتيح له إيجاد عمل بسهولة وكسب المال، لكنّ سنوات الأرقام والمحاسبة لم تمرّ من دون مسرح وتمثيل.
على مسرح الجامعة، تعرّف أبو عبسي إلى أدباء وكتّاب، منهم الأديبة اللبنانية الراحلة روز غريّب، التي «يستحق نتاجها الأدبي المزيد من الدراسة». شارك في مسرحية من تأليفها بعنوان «فينيانوس بالضيعة». نشاطه في المسرح الجامعي دفع بأستاذته صفية سعادة عام 1977 إلى اصطحابه للقاء الرحباني الابن، الذي كان نجمه قد بدأ يلمع في تلك المرحلة.
ذلك اللقاء سيثمر تعاوناً طويل الأمد بين الاثنين، كانت أولى ثماره أداء أبو عبسي دور هارولد في «بالنسبة لبكرا شو» عام 1978. في العام نفسه، التحق أبو عبسي بقسم المسرح في الجامعة ذاتها. هناك، قام بتجربته الكتابية الأولى عام 1979، وكانت مسرحية «الشمع». اتخذ العمل منحىً فلسفياً في طرح مبدأ التشكيك، حاملاً البذور الأولى لمشاغل أبو عبسي التي سترسم لاحقاً تخصّصه في الفلسفة. «رغم أنّ طريقة زياد الرحباني تختلف عن طريقتي، استمتعت بالعمل معه انطلاقاً من التزامي مبدأ الولاء للكاتب»، يقول أبو عبسي، الذي شارك في جميع أعمال زياد الرحباني المسرحية منذ عام 1978: من «فيلم أميركي طويل» (1980)، و«شي فاشل» (1983)، إلى «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993) و«لولا فسحة الأمل» (1994).
إلى جانب تلك المشاركات، كانت له تجارب مسرحية مع مخرجين آخرين، مثل يعقوب الشدراوي في «جبران والقاعدة» (1981)، وربيع مروة في «المفتاح» (1996)، وفيصل فرحات في «سقوط عويس آغا» (1981)، وأخرى تلفزيونية مع المخرج رفيق حجار، إلا أن العمل المسرحي في الإطار الجامعي، الذي انكب عليه منذ عام 1986، حين بدأ تدريس مادة المسرح في «الجامعة اللبنانية الأميركية»، كان الأكثر غزارة. «لإشباع رغبة قديمة» كما يقول، التحق زياد، بموازاة مسيرته المسرحية، بقسم الفلسفة في «الجامعة الأميركية في بيروت» عام 1982. وتابع الدراسة في الولايات المتحدة، حيث التحق بـ «جامعة هيوستن»، ابتداءً من عام 1983 لدراسة الفلسفة والمسرح. وحاز شهادة الماجستير بعدها بثلاث سنوات، قبل أن يعود إلى التدريس في بيروت.
هنا، انطلق أبو عبسي في المغامرة، ليكتشف أن المسرح التراجيدي ما زال يستقطب المشاهدين من خارج الحرم الجامعي: «الحائكون» لـ Gherhart Hauptmann (١٩٨٧)، «الأشباح» لهنريك إبسن (١٩٨٩)، و«روميليوس العظيم» لفريديريش دورنمات (١٩٩٠)... كان العمل مع الطلاب داخل الحرم الجامعي، متعة تأكدت له حين واجه الجمهور العريض على مسرح جان دارك في الحمرا عام 1991. قدّم يومها مسرحية «رجع نعيم راح» من تأليفه وإخراجه، وشارك فيها في التمثيل أيضاً، لكنّه يحتفظ بطعم المرارة من تلك التجربة، بسبب ما أعاق إعداد المسرحية من صدامات «غير راقية» مع زملاء له في الوسط المسرحي، يتحفّظ على سرد تفاصيلها.
في عام 1992، حصل أبو عبسي على منحة بحث متقدم من مؤسسة Fullbright، سافر على أثرها إلى الولايات المتحدة مجدداً ليتعمّق أكثر في المسرح الشكسبيري. ومنذ عودته إلى بيروت تفرّغ لتقديم شكسبير على مسرح الجامعة: «كما يحلو لك»، و«الليلة الثانية عشرة»، و«زوجات ويندسور الفرحات»، و«ريتشارد الثالث» و«ماكبث»... أما الطلاب الذين يشاركونه تلك التجارب، فيؤكّد أن جزءاً مهمّاً منهم يتحلّى بالنضج والموهبة الكافيين لدخول هذا المعترك.
الممثل وعاشق الفلسفة الذي عمل فترة مديراً للبرامج الإذاعية في «صوت الشعب»، وكتب في الصفحات الثقافية لبعض الجرائد اللبنانية، لم يعد يعمل في المسرح اليوم. يدرّسه فقط في «الجامعة اللبنانية الدولية». بنبرة تهكمية تتواءم مع تراث فكري فلسفي تشكيكي يعتمده، ينهي زياد أبو عبسي اللقاء قائلاً: «إذا عدت وعملت في المسرح، فسأخبركم بلا شك...».



5 تواريخ


1956
الولادة في صيدا ـــــ جنوب لبنان

1974
شارك في المسرح الجامعي أثناء دراسته المحاسبة في «الجامعة اللبنانية الأميركية»

1978
دوره الأول مع زياد الرحباني في «بالنسبة لبكرا شو»

1986
عاد بماجستير من «جامعة هيوستن»

2011
شارك في فيلم نادين لبكي الجديد
«هلق لوين؟»