اللاذقية | مئتا عائلة هربت من الذبح في ريف اللاذقية، والتجأت إلى ثلاثة مراكز إيواء داخل المدينة. عشرات العناصر من قوى الأمن والجيش تم فرزهم على أبواب المراكز لحمايتها تحسّباً لحصول أي طارئ أمني يحيل حياة المدنيين الهاربين إلى رعب مضاعف.ما إن تطأ قدماك مركز «طلال ياسين» حتى يباغتك الشعور بالبؤس المحيط. أوراق نعي شهداء المجازر ما زالت معلّقة على باب المركز. أطفال يدخلون ويخرجون حاملين بعض الأغراض. ملابسهم تشي بأوضاعهم المتردّية، والشمس لوّحت على وجوههم بقسوةٍ، كأنما ذلك يشرح الاختلاف بين طفل تربّى في منزله، وطفل أمضى أيامه في الشقاء خارجاً. العيون تترقبك بحذر، من الزائر؟ وماذا يريد منهم هو الآخر؟ عيون أخرى تتابع خطواتك علّك تكون أملاً في تخليص إحدى تلك العائلات من مأساة وقعت فيها، من دون أن يستوعب أفرادها هول الكارثة التي حلّت بهم فجأة، ولا تزال آثارها مستمرة حتى الآن. الواقع مُرّ هُنا. قد ينقص أو يزيد عن الماضي القريب الذي أتى بهؤلاء المواطنين إلى هذا المكان. مواطنون «محترمون»، كالكثير من السوريين الذين فقدوا بيوتهم ومعيليهم، يأكلون مما يزرعون، ويصرفون مما يبيعون. تغيّر الواقع السوري فجأة، وأصبح السوريّ يتحايل على الحياة كي يعيشها. متابعة الحياة في ظل الظروف المُذلّة لا يقبلها أي إنسان؛ فإحدى النساء في القرى المستباحة، التي قدم منها هؤلاء، قتلت نفسها عندما اكتشفت أن لا سبيل إلى الهرب من المسلحين، وأن السبي سيكون مصيرها. يذكرها النازحون بالكثير من الأسى، إذ كانت شجاعة بما يكفي، بنظر بعضهم، أن تختار مصيرها مرفوعة الرأس.
هي التغريبة الساحلية الأولى والكُبرى خلال مرحلة الأزمة السورية بالنسبة إلى مؤيدي النظام، ما جعل التبرعات تنهال على النازحين من كل حدب وصوب. المؤيدون اعتبروا أن هؤلاء الناس، الذين دفعوا غالياً ثمن موالاتهم لوحدة البلاد، يستحقون منهم كل تعويض عن فقدان بيوتهم وذويهم في المجازر البشعة التي أربكت النسيج الاجتماعي داخل الساحل السوري. الكرم في التبرعات، كما كل شيء في الحياة، بدأ كبيراً وتناقص تدريجاً، مع تناقص الحديث عمّا جرى. ريما، متطوعة من «مجلس الشباب السوري» في مركز الإيواء، تشرح لـ«الأخبار» عن التبرعات الكبيرة التي وصلت إلى المراكز خلال اليومين الأولين، لتخفّ لاحقاً. وتتابع: «تم افتتاح ثلاثة مراكز إيواء للنازحين وهي: طلال ياسين، توفيق حمود ورفيق سكاف. ويتم العمل على تقديم الخدمات للعائلات المنكوبة قدر المستطاع». المراكز التي سُمّيت بأسماء شهداء البلاد القُدامى تحتضن اليوم أهالي الشهداء بالكثير من الألم. مجدولين، طالبة جامعية، نزحت بملابسها التي ترتديها. تركت حياتها ومنزلها وكتبها الدراسية، وأوت إلى المدرسة غير المخصصة للسكن والاستقرار. خطواتك تثير فضولها، آملة شرح ما لديها لعلّك تكون سبباً في حل مشكلاتها. الفتاة العشرينية تروي لـ«الأخبار» ما لديها بالقول: «يعاملوننا هُنا بشكل جيد، ولكن ينقصنا الكثير من المستلزمات. أحتاج، أقلّه، إلى كتبي لأتابع دراستي. أين مستقبلي الدراسي، والدورة الفصلية الثالثة للجامعات على الأبواب؟».
داخل مركز «رفيق سكاف» يمكن استشفاف سخط الناس من الخدمات. أمّ حسام، من قرية بو مكّة، تشكو وتستنكر الإهمال الكبير الذي يعانيه النازحون. تقول بغضب: «لقد تعرضنا للقتل والذبح، ليكتمل عذابنا بسرقة التبرعات. لا يصل إلينا إلا القليل من المستلزمات، رغم مطالبتنا الدائمة، من دون أن يسمع أحد شكوانا». وتتابع: «لقد قُتل العديد من أفراد أسرتي إما ذبحاً أو حرقاً، لنأتي إلى هُنا ونعيش على هذه الحال». الوضع الذي تشرحه أم حسام مختلف بالنسبة إلى محمد، من قرية أوبين، الذي كان لديه رأي آخر في وضعه كنازح في المركز، إذ يرى أن المعاملة حسنة، والتبرعات تصل إليهم كمبالغ مالية أو مواد ضرورية. ويقول: «على الأقل لدينا مكان نأوي إليه، بعدما فقدنا كل ما يمكن أن نعيل عائلاتنا به».
الخدمات تأتي متأخرة دوماً. هذا رأي أغلب النازحين في تلك المدارس. أبو كريم، من قرية أوبين يتذمر من تأخر الفطور للوصول إليهم حتى الساعة الثانية ظهراً، وأحياناً كثيرة حتى الرابعة ظهراً. ويشرح مكونات الفطور بقوله: «فطور عائلتين كاملتين مؤلف فقط من علبة جبنة ومرتديلا مع بعض الخضر، فيما ينال من له معارف في المركز زيادة عن حاجته». يشكر الرجل الدولة على تقديم المأوى، إنما يتساءل كيف يمكن تقديم مأوى من دون مياه للاستحمام. ويسأل بحنق: «أيريدون انتشار الأمراض بيننا؟».
جرح النازحين كبير، ليس بسبب التشرد والاعتداء الذي عانوه، بل بسبب إحساسهم بالتعرض للخذلان وعدم الدفاع عنهم كما ينبغي. أبو حسن، عجوز من قرية أوبين، يعتبر أن المدنيين تعرضوا للخيانة من بعض أبنائهم الذين تم تكليفهم بالدفاع عن قراهم. ويكمل قوله: «لا يمكنني العودة إلى قريتي بعد تحريرها، فبيتي تهدّم والخشية من استمرار الهجمات المفاجئة ستظل تلاحقنا». سنتان ونصف سنة من عمر الأزمة، بحسب العجوز الريفي، لم يتعامل الجيش مع المدنيين إلا بكل ودّ ومحبّة، فيما هدم من يسمّون أنفسهم ثواراً المنازل واستباحوا الأعراض خلال يومين من الاعتداءات، على حد تعبيره.
زيارة محافظ اللاذقية أحمد الشيخ عبد القادر لمراكز الإيواء نالت حصتها من تهكم النازحين، إذ يذكر أحدهم أن المحافظ لم يستطع احتمال صراخ النازحين وشكاواهم وتعبيرهم عن البؤس الشديد، فقطع زيارته ومضى خارجاً. ويبرر الرجل الاحتقان الذي يخيّم على النازحين، بالقول: «لدينا العذر للصراخ والتذمر. لقد ذُبحنا كما الحيوانات ويريدون منّا الهدوء!».
يلوم بعض اللاذقيين، والسوريون عموماً، من يستطيع حمل السلاح من أولئك النازحين، على العجز الذي يظهرونه في انتظار المساعدات، فيما يتطلب الوضع منهم الانضمام إلى اللجان الشعبية للدفاع عن قراهم بدل تركها لاجتياح المسلحين. أمرٌ يبرره الأهالي بأن اللجان قصّرت في دورها المكلفة به للدفاع عن القرى المسالمة التي تم احتلالها خلال ساعات من دون أي قدرة من أبنائها على صدّ الهجوم.