هناك الكثير من الأسئلة التي تُطرح في الغرف المغلقة عن النازحين السوريين في لبنان وعن أعباء وجودهم الاقتصادية والاجتماعية. أين يسكن هؤلاء؟ ماذا يأكلون؟ من يموّل حاجاتهم؟ أين يعملون؟ ما هي نسبة الفقراء منهم ومتوسطي الحال والأثرياء؟ هل ينخرطون في النسيج الاجتماعي؟ هل هناك مكان لكل هؤلاء؟ هل تستطيع البنى التحتية والخدمية والاجتماعية استيعاب احتياجاتهم ... عشرات الأسئلة تبقى بلا أي جواب. هناك الكثير من المحاولات للإجابة عن هذه الأسئلة، لكن للأسف ليس هناك جهة رسمية تقوم بهذا الأمر وكأن الأمر لا يعنيها. لا بل تتصرّف الجهات المسؤولة في الدولة كأنها بعيدة عن هذا الواقع، وليست في وارد تقديم الإجابات للرأي العام وهي تعمل بالاتكال على المنظمات الأجنبية وغير الحكومية وتوجيهها باتجاه استغلال النازحين، تماماً كما يستغلّ زعماء الطوائف اللبنانيون لـ«يشحذوا على حسابهم».
في الغالب، كل هذه الأسئلة قد تطرح في اجتماع متوقّع في نيويورك حول كيفية مساعدة اقتصاد لبنان والنازحين السوريين. ليس مهماً عنوان الاجتماع بمقدار أهمية ما سيحصل عليه لبنان من مساعدات. الكلام على المساعدات يفتح شهية الكثيرين ويثير ذكريات واسعة لديهم عن باريس 1 وباريس 2 وباريس 3 ... مع كل هذه المؤتمرات، يتبين أن لبنان لديه خبرة واضحة في استقطاب المساعدات. كيف لا ولبنان أصبح بلد الشحاذين. كل أثريائه شحاذون. يراكمون الثروات باستمرار ويدّعون أن فنّ الشحاذة هدفه دعم الفئات الفقيرة والمأزومة في لبنان. هؤلاء الفقراء والمأزومون ليسوا لبنانيين اليوم، بل هم سوريون هربوا من الحرب المشتعلة في بلادهم. جاؤوا إلى لبنان بحثاً عن مأوى. اكتشفوا فوارق المعيشة بين سوريا ما قبل 2011 ولبنان. بعضهم لم يكتشف بعد أن لبنان بلد اللاإجابات، وبلد الفوضى المستشرية وبلد الأزمات المتكررة والمتواصلة. لبنان بلد موصوف باحتلال الاستثناءات مكان القاعدة ... هل تزاد إلى هذه «الخصل» مخاطر النازحين الاقتصادية والاجتماعية؟
حتى اليوم، ليس هناك محاولة جديّة لدراسة أوضاع النازحين في لبنان وأكلافهم الاقتصادية والاجتماعية. الجميع يدور في فلك التنبؤات والتقديرات، لكن في رأي الوزير السابق شربل نحاس «ليس هناك جديّة في التعاطي مع مسألة خطيرة بهذا الحجم».
هناك محاولتان للتعاطي مع هذه المسألة؛ الأولى تقوم بها منظمة الأمم المتحدة «اسكوا»، والثانية يقوم بها البنك الدولي. الاثنان يتفقان على أن اقتصاد لبنان يخسر بسبب الأزمة السورية وبسبب أعباء وجود كل هؤلاء النازحين السوريين على أرضه. وبحسب ما ينقل خبراء اطلعوا على بعض المعطيات الأولية المستخرجة من دراستَي اسكوا والبنك الدولي، فإن الخسائر التي يتكبدها لبنان تتراوح بين 7.6 مليارات دولار و11 ملياراً. وينقل الخبراء عن «اسكوا» أن خسارة اللبنانيين تتمثّل في خسارة الناتج المحلي الفردي الذي كان يقدّر بنحو 10 آلاف دولار، لكن الأزمة السورية ستقلّصه الى ما قيمته 3000 دولار في نهاية عام 2014، أي ليصبح 7 آلاف دولار. أما بالنسبة إلى البنك الدولي، فإن الخسارة ستبلغ بالنسبة إلى الناتج الفردي ما قيمته 1800 دولار.
يفضّل عدم الدخول في نقاش تقني حول كيفية احتساب هذين الرقمين، لكنهما يثيران الكثير من الأسئلة لدى شربل نحاس. أسئلة نحاس تأتي بعد اطلاعه على بعض النتائج لدى «اسكوا». هذه النتائج تفترض أن نموّ الناتج المحلّي الإجمالي سيكون بنحو 1.8% في عام 2013 و2.1% في عام 2014. لكن النتائج المذكورة تشير بصورة مباشرة إلى أن تداعيات أو تأثيرات النازحين السوريين على سوق العمل ستكون كبيرة وستنعكس على الوضع الاقتصادي عموماً لأن التوازن في سوق العمل سيختلّ وترتفع معدلات البطالة لتصل إلى 29% في حال عدم إجراء أي تعديل في الأجور، وسترتفع إلى 14% في حال تعديل الأجور. أما بالنسبة إلى الناتج الفردي، فإذا لم تتمكن سوق العمل اللبنانية من امتصاص العمالة السورية ومن توفير مصادر اقتصادية جديدة، فسيسجّل هذا الناتج انخفاضاً بنسبة 20%، مقابل انخفاض بنسبة 12.3% في حال تمكن السوق من امتصاص العمالة السورية.
عند هذا الرقم، يتوقف نحاس كثيراً. فلو كان كلام «اسكوا» دقيقاً لكان لبنان شهد كارثة كبيرة بالنسبة إلى هذا المؤشر الذي يعبّر عن مستوى معيشة الأسر اللبنانية. كيف يكون استنتاج نحاس صحيحاً؟ الأمر ليس بهذه البساطة، لكن التبسيط مفيد؛ إن الناتح الإجمالي اللبناني يقدّر بنحو 42 مليار دولار، ويستحصل منه الناتج الفردي بعد قسمته على عدد المقيمين في لبنان الذين يقدّر عددهم بنحو 4.1 ملايين نسمة، وبالتالي فإن الناتج الفردي هو أكثر قليلاً من 10 آلاف دولار. لكن في حالة وجود نحو مليون سوري في لبنان، فإن هناك تفسيراً مختلفاً لهذا الوضع، إذ باتوا يحتسبون ضمن معادلة الناتج الإجمالي (هذا الناتج يحتسب الأجور والأرباح والضرائب لكل المقيمين في لبنان ولا يحتسب للبنانيين فقط، بل كل ما يمثّل قيمة مضافة في هذه العناصر الثلاثة)؛ وبالتالي، لا يمكن أن يكون هؤلاء السوريون موجودين في لبنان من دون أن ينفقوا أموالاً على الأكل والشرب والسكن والعلاج ومستلزماتهم الاستهلاكية الأخرى، كما لا يمكن أن يكونوا موجودين من دون أن تكون لديهم مصادر لتمويل هذه المستلزمات. والمعروف أو المتداول، أن تمويل هذه المستلزمات جرى من ثلاثة طرق؛ الأول هو أن السوريين النازحين إلى لبنان حملوا معهم أموالهم وبدأوا ينفقون جزءاً منها. والثاني هو أنهم يعتمدون على المساعدات الخارجية. والثالث هو اعتمادهم على العمل في لبنان لتمويل هذه الحاجات. وهناك طريق رابع يتشكّل من مزيج من الطرق الثلاثة المذكورة، وهو الاستنتاج الأكثر منطقياً.
في المحصلة، إن هذا التمويل يجب أن يدخل ضمن احتساب الناتج وتضمين قيمته في الناتج المحلي الإجمالي، أو تضمينهم ضمن قوّة العمل، أو ضمن الأموات. فإذا كان بينهم من يعمل يجب أن تحتسب القيمة المضافة التي يقدّمها ضمن الناتج المحلي، ولا يعدّ بعد ذلك عاطلاً من العمل، كما أنه لا يعني بالضرورة تراجعاً في معيشة اللبنانيين، بل يعني ذلك أن الاحتساب يصبح مختلفاً عما يجب أن يكون عليه. وبالتالي لا تصحّ معادلة «اسكوا» في هذا المجال، ولو أنها تدلّ على جرح كبير ينزف في اقتصاد لبنان. في هذه الحالة، إن اسكوا تطرح إشكالية وتتخبط فيها، لكنها لا تصل إلى مرحلة الإجابة الواقعية عنها. لكن المخيف هو أن تكون تقديرات «اسكوا» عن زيادة أعداد النازحين السوريين إلى 2.3 مليون سوري، أي أكثر من 56% من عدد السكان المقيمين في لبنان.
والمهول أيضاً بالنسبة إلى نحاس أن تكون الدولة وسلطاتها وأجهزتها غائبة تماماً عما يحصل في لبنان، فلا تعرف معنى تداعيات الأزمة السورية إلا في سياق حاجتها وبحثها عن التمويل. هكذا يشحذ لبنان. في هذه الحالة، لن يعود توصيف «لبنان رئة سوريا» واقعياً لأن تداعيات من هذا النوع تدفع الرئة نحو الانفجار.