قبل أيام، كشفت حفريات، تجريها إدارة مدرسة سيّدة النجاة الأنطونية الدولية في الميناء، عن وجود أعمدة وتيجان وقناطر وجدران، تعود إلى عهود خلت مدفونة تحت المدرسة.
الحفريات تجري منذ فترة على ملعب المدرسة الرئيسي، الذي تقدّر مساحته بنحو 350 متراً مربعاً، والهدف توسعة المبنى وبناء طوابق وغرف إضافية.
أعمال الحفر كشفت عن وجود هذه الحفريات الأثرية، وسرعان ما لفتت أنظار نشطاء في الحملة المدنية للدفاع عن آثار طرابلس، الذين تحرّكوا ودخلوا المكان وعاينوه خلسة، وصوّروا لقطات عديدة للموقع والآثار المكتشفة، من أعمدة وقناطر وجدران حجرية، قبل أن يخرجوا بخلاصة أنه ينبغي التريث في أعمال الحفر والبناء، للتأكد من الآثار المكتشفة، وبعد ذلك يتخذ القرار المناسب.
يرى النشطاء في الحملة أن المشكلة ليست مع إدارة المدرسة، التي حصلت على تراخيص قانونية لبدء الحفر والبناء من بلدية الميناء ووزارتي الأشغال والثقافة، فهي مؤسسة تربوية عريقة ومحترمة، ولها الحق في توسعة بنائها، و«نحن نشجعها على ذلك، لكن ينبغي أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار».
يستند النشطاء في تمسكهم بالدفاع عن أي موقع أثري يُعثَر عليه في الميناء إلى أسباب عديدة، أبرزها أن مدينة طرابلس تاريخياً كانت تقع في مدينة الميناء، قبل أن تشيَّد لاحقاً بعيداً عن شاطئ البحر، وتحديداً المدينة القديمة فيها التي تقع المدرسة الأنطونية ضمنها.
ويوضح النشطاء أن زلزالاً كبيراً أصاب طرابلس في عهود سابقة تعود إلى أيام البيزنطيين، طمرها بالكامل، من غير أن تجري أي أعمال حفريات حقيقية للكشف على آثار طرابلس القديمة، باستثناء بعض الحفريات التي قامت في سنوات الحرب الأهلية، والتي سرعان ما توقفت بعدما تعرّضت الآثار المكتشفة للنهب والسرقة والتعديات والاستباحة على كل المستويات.
أثار الاكتشاف الأثري الأخير ضجّة، إذ أُغلق الشارع الملاصق للمدرسة 3 أيام، جرى خلالها رفع الأعمدة بـ«الونش»، ومُنع اقتراب أحد من الموقع، بعدما حضرت مندوبة مديرية الآثار في وزارة الثقافة في الشمال سمر كرم وعاينته، وخرجت بنتيجة، حسب النشطاء، أن الأعمدة «ربما قام أحد بطمرها، وهي ليست عائدة إلى موقع أثري أو تاريخي!».
بعض النشطاء في الحملة الذين عاينوا الموقع، أوضحوا لـ«الأخبار» أنهم شاهدوا أعمدة يُرجّح أنها من العهد الفينيقي أو البيزنطي أو الروماني، يراوح ارتفاعها بين مترين ونصف متر وثلاثة أمتار، وقناطر وجدران حجرية، وأن المنطقة غنية بآثار من هذا النوع حسب حفريات بسيطة جرت سابقاً، كما أنه توجد داخل حرم المدرسة كنيسة مارونية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر.
مآخذ النشطاء على مديرية الآثار ووزارة الثقافة أنها «تهمل اثار طرابلس وتتهاون مع التعديات عليها»، لكن النشطاء الذين يقاربون هذا الموضوع يدركون مدى حساسيته من الناحية الطائفية، إذ يوضح بعضهم لـ«الأخبار» أنه «قد يُساء فهم تحركنا أو يُستغل، وقد يُقال إننا نعمل على «تهشيل» المؤسسات التربوية المسيحية من طرابلس والميناء من خلال التضييق عليها»، لافتين إلى أن المدرسة الأنطونية، التي تتضمن صفوفها طلاباً من مرحلة الروضات حتى الثانوي، «تلقت عدة عروض وإغراءات من أجل نقل مقرّها إلى الكورة، كما فعلت مؤسسات تربوية عديدة سواها، لكنها أصرّت على البقاء في الميناء، وهذا أمر نقدّره».
على هذا الأساس، يناشد النشطاء إدارة المدرسة، ومن ورائها البطريركية المارونية، وعلى رأسها البطريرك بشارة الراعي، «إيلاء هذا الموضوع اهتماماً جدّياً من النواحي العلمية والتاريخية، لأنه إذا لم يحرص موقع تربوي بارز على آثار ومواقع تاريخية مهمة، فمن سيحافظ عليها إذاً؟»، لافتين إلى أن «موقع الحفريات له علاقة بتاريخ مدينة طرابلس خلال العهدين البيزنطي والروماني، ما يعني أنه يجب أن يكون الاهتمام مشتركاً وعامّاً».
وفي بادرة يراها النشطاء محفّزة لإدارة المدرسة، يشيرون إلى أن «الحرص على الموقع الأثري المكتشف من قبل المدرسة يعطيها قيمة تعليمية وتاريخية وسياحية إضافية، لا العكس»، وأنهم مستعدون مع خبراء في هذا المجال «لتقديم ما يلزم من أجل الحفاظ على الموقع، ومساعدة المدرسة لتكون صرحاً أثرياً وتاريخياً إلى جانب كونها صرحاً تربوياً».
وكانت الحملة قد أصدرت بياناً أوضحت فيه أنها «رصدت اكتشاف آثار ربما تعود إلى الحقبتين الرومانيّة والبيزنطيّة، من بينها تاج عمود حجري أو أكثر، و10 أعمدة دائرية غرانيتية يعود تاريخ نحتها إلى الحقبة الفينيقية، ذات أحجام وأطوال مختلفة، اثنان منها يتجاوز طولهما 3.5 أمتار».
واستغربت الحملة تسرّع المديرية العامة للآثار «بإعطاء الإذن بجرف الموقع ومتابعة أعمال الحفر وصبّ الأساسات الباطونية فيه، وإعطاء بلدية الميناء ترخيصاً بذلك، حيث جرت إزالة الأعمدة المكتشفة من مكانها على وجه السرعة، من دون تكليف لجنة اختصاص من آثاريين ومؤرّخين الكشف على الموقع والتنقيب فيه على نحو علمي لتحديد هويته وتاريخه وأهميته».
وناشدت الحملة البطريرك الراعي ومدير المدرسة الأب شكري الخوري، «المعروف عنه حبّه للآثار وشغفه بالتاريخ، الحفاظ على هذا الكشف الأثري المهم»، كما ناشدت «وزير الثقافة ضرورة إعادة النظر في قرار المديرية العامة للآثار، والمطالبة بوقف أعمال الصبّ والبناء الجارية بوتيرة سريعة حالياً، وذلك إفساحاً للمجال لتشكيل لجنة من الآثاريين والمؤرّخين والباحثين المتخصّصين من المدينة ومن الوزارة، تتولّى البحث والتنقيب في الموقع، وتضع خطة للكشف عنه بالكامل وكتابة تاريخه وحفظه».