بالإضافة إلى الكتل الاجتماعية التي تنتفض هنا وهناك (وآخرها احتجاجات السودان ضدّ الحكم الفاشي لطغمة البشير) ثمّة عوامل أخرى تسم المرحلة، ولا يجري التطرّق إليها كما يجب. أوّل هذه العوامل وأهمّها هو خروج اليمين من السلطة بسرعة قياسية. كان علينا في ظروف تاريخية مغايرة أن نتوقّع بقاءه لسنوات على الأقلّ، هذا إذا لم نشهد هيمنة كاملة له ولرموزه مثلما حدث في كثير من البلدان التي أتت «ثوراتها» أو انتفاضاتها به ليحكم وحده، لا بالشراكة مع آخرين (تجارب «الثورات» في أميركا وبريطانيا وإيران و... إلخ).
المهمّ أنه حكم هنا لفترة قصيرة وخرج بعدها تاركاً وراءه مرارات لا يسهل التخلّص منها وخصوصاً في ما يتعلّق بالتوظيف السياسي للدين. في الحقيقة هو لم يكن توظيفاً سياسياً بقدر ما كان طبقياً، أي نتاجاً لعمل الامبرياليات الدولية على استبدال النخب الطبقية السابقة بأخرى تجيد التعامل أكثر مع التحشيد الجماهيري. لنتّفق أولاً على الغاية من كلّ ذلك: المزيد من النهب الامبريالي للأطراف. مع الانتفاضات تغيّرت وسائل النّهب وأدواته، فيما بقيت طبيعته كما هي.
لنقل كذلك إنّ دخول الطبقات الشعبية على الخط أجبر الامبرياليات الغربية على تحيّن الطريقة الأفضل لمعاودة إنتاجه. بالنسبة إليهم لم يعد استخدام العملاء المنتمين إلى النظم الد كتاتورية يفي بالغرض، فقاعدة هؤلاء الشعبية انحسرت أو تكاد، وشرعيتهم تآكلت بعد الفضائح التي تسبّب بها تزويرهم الساذج للانتخابات (تحديداً انتخابات 2010 النيابية في مصر). في العادة تكون السلطة العميلة للغرب أذكى من ذلك، فقد سمحت لعقود بنمط إنتاجي يستفيد منه الكومبرادور المتحالف مع الامبريالية، كما تعتاش عليه في الآن نفسه شرائح اجتماعية لا تحظى بالقدر ذاته من الثروة والنفوذ. هكذا، تنهب الامبرياليات كما تشاء، وتبقي على النظم العميلة لها مستفيدة من دورة فساد صغيرة تقف حائلاً بين المنظومة بمجملها والاحتجاجات الشعبية على التهميش والإفقار. هنا بالتحديد حصل الانهيار ــ وخصوصاً لجهة انسداد دورة الفساد الصغير وترك الفقراء يلعقون جراحهم بأنفسهم ــ، وبالتالي أتى دور الطبقة المسمّاة باليمين الديني. فبعد عقود من القمع والسّحق أصبح لهذا التيار قاعدة اجتماعية فعليّة يمكن التعويل عليها في عملية شراء الوقت وتأخير القطيعة مع النظام بمجمله. وهذا هو المغزى الفعلي من كلام الإخوان المتكرّر عن «الشرعية»، فهذه الأخيرة تعني بالنسبة إليهم توافر شبكات ريعية «لإعادة توزيع الدخل»، بحيث لا ينال منه الفقراء بعد التدوير إلا ما يسدّ الرمق ويدفع بعيداً الرغبة في الاحتجاج. الغرب لا يريد أكثر من ذلك أصلاً، وله مصلحة في أن تكون «الشراكة» محدّدة وواضحة المعالم. بكلام آخر يريد نهباً على قاعدة نظام مستقرّ ومغطّى شعبياً، وهو ما يكفله سعي اليمينيين الجدد وراء حكم محاصصة على المدى الطويل، بحيث يصبح بإمكانهم توزيع الفتات الناجم عن المحاصصة الصورية على من يشاؤون. على هذا الأساس «جيء بالإخوان المسلمين إلى السلطة» في أكثر من بلد عربي (مصر، تونس، ليبيا)، وبالفعل بدأت عملية تثبيتهم في الحكم تأخذ منحى جدّياً، بالتوازي مع ترك هوامش تسمح لباقي الكتل المنتفضة بمتابعة «احتجاجاتها المعتادة».
بالنسبة إلى الغرب «الاحتجاج المعتاد» هو الذي يسمح بتوسيع شرايين النظام على قاعدة أنّه ديموقراطي ومتسامح تجاه خصومه السياسيين. التقويم الامبريالي هنا أخذ بالاعتبار قدرة الإخوان على تفريغ الاحتجاجات من محتواها، بمعنى جرّها إلى مربّع الهويّة وبالتالي يصبح الصراع بين أطراف «غير متماثلة سياسيا»، أي جماعات حسب التعريف الكولونيالي له، وبحسب الأميركيين أيضاً فإنّ صراعاً مماثلاً لن يكون على شاكلة صراع طبقات. وحين لا يكون كذلك تخرج السلطة وحدها منتصرة بوصفها «جماعة دينية» لا نخبة سياسية ممثّلة لمصالح طبقية كما هي الحال فعلاً.
هكذا تصوّرت الامبريالية الأمر في البداية، ولكنها فوجئت للمرّة الألف بعدم مطابقة تصوّراتها الكولونيالية للواقع. فكما تعاملت مع الأفغان على أساس أنّهم قبائل فحسب كذلك فعلت في مصر، ولكن مع فارق أنّها تعرف الواقع السياسي المصري جيّداً منذ أيام السادات. ربّما ظنّت أنّ التعامل مع المجتمع في ضوء الصراع الطبقي أصبح من الماضي فتمسّكت بقراءة سوسيولوجية تعلي من شأن الدين أكثر من اللازم وتضعه فوق المجتمع وفوق العملية السياسية برمّتها. سبق لهيكل أن تكلّم مرّة عن رؤية الأميركيين للصراع في المنطقة، وأظنّه استشهد بجون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي يعتبر أنّ الحكم هنا لن يكون «مستقرّاً» إلا بالاستناد إلى الإسلام كمرجعية نهائية. طبعاً لا خلاف حول موقع الدين كمكوّن أساسي في الاجتماع العربي، إلّا أن توظيفه في عملية صراعية بين الطبقات الاجتماعية سيفضي إلى انحسار تأثيره على المدى الطويل. وهذا بالتحديد ما حصل في مصر مؤخّراً، فالطبقات الاجتماعية التي لفظت الإخوان كتنظيم لم تعد مستعدّة لتقبّل أيّ شعارات تتلاعب بالهويّة الدينية للمجتمع، وعلى هذا الأساس فحسب لجأت إلى الجيش ليحسم لها معركتها ــ بما أنّها غير قادرة على حسمها بقواها الذاتية ــ، أمّا ما سيحصل بعد ذلك بينها وبين العسكر فهو متروك للديناميّة التي يتحرّك في ضوئها الواقع هناك (وهي في مصر مذهلة بكلّ المقاييس بدليل النقاشات المحتدمة حالياً حول دور الجيش وموقعه من العملية السياسية، والتي سيترتّب عليها لاحقاً الشيء الكثير). الامبرياليات الغربية لم تفهم كلّ ذلك ورفضت التعامل مع الصراع على أساس أنّه اجتماعي ــ اقتصادي أولاً، لدرجة أنّها اعتبرت حركة الجيش في 3 يوليو هي الأصل، ورفضت كما الكثير من اليساريين المناوئين لها ــ ياللعجب ــ رؤية الكتل الاجتماعية الهائلة التي تحرّكت قبل ذلك (في 30 يونيو) معلنة رفضها الكامل لبقاء السلطة... الطبقية ــ الطائفية. أقول ذلك لتذكير الرفاق في اليسار بأنّ الاعتراض على سلطة الجيش وجرائمه حاليّاً لا ينفي عن موجة 30 يونيو طابعها الثوري، فقد أتت مثلها مثل 25 يناير لتنهي حكما يمينياً نهب الثروة وأخرج مئات الألوف من المهمّشين والعمّال والفئات الضعيفة من الدورة الاقتصادية، ليضعهم جميعاً تحت رحمة اقتصادات موازية ومافياوية لا تعترف بأنّ لهم حقوقا يتعيّن انتزاعها. لست مغرماً على الدوام بأدلجة الاحتجاجات والموجات الثورية والتقوّل على بنيتها المختلطة وغير المتجانسة، ولكنّ الأدلجة تصبح ضرورة أحياناً لتفسير ما لا يمكن تفسيره بأدوات أخرى. فحين تتعاقب طبقات مختلفة على إخراج اليمين ليس فقط من السلطة بل من المجتمع كذلك (لنتذكّر ما حصل مع أعضاء الحزب الوطني والآن مع الإخوان والاسلامويين) يغدو للكلام عن اليسار معنى فعلي لا صوري فحسب. الأرجح أنّ وجود المهمّشين بكثافة داخل احتجاجات العامين الماضيين هو ما فرض هذا التصوّر، وليس الوجود المادي لليسار بحدّ ذاته، فهذا الأخير لم يستطع حتّى الآن صياغة مشروع مستقلّ عن قوى الأمر الواقع المتمثّلة بالجيش والبيروقراطية الحكومية والاسلامويين، وكلّما أتيحت له الفرصة لفعل ذلك يتنصّل من الأمر ويسارع إلى الالتحاق بإحداها تحت عناوين وشعارات مختلفة.
ليس غريباً والحال كذلك أن يصبح الفراغ هو الحقيقة الوحيدة القائمة بالنسبة إلى الكتلة التي تطالب بنزول اليسار إلى الشارع، وهذه مناسبة إضافية لتذكير الرفاق في مصر بالبديهيات: لا جدوى من الصراع الاجتماعي إذا بقي معلّقاً في الفضاء الافتراضي وغير مستند إلى قاعدة اجتماعية عريضة وجاهزة للصدام مع السلطة في أيّ وقت. في ذهني الآن كلّ ما يكتبه النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وكلّ ما يفعلونه أثناء اشتراكهم في الاحتجاجات وبلورتهم للمطالب الاجتماعية والاقتصادية، وهو عظيم على أيّ حال غير أنّه لا يشكّل شيئاً بالقياس إلى حجم التضحيات التي قدّمها المهمّشون والفقراء في سبيل أن تصبح المطالب تلك حقيقة مادية وصلبة تفرض وجودها على السلطة وتجبرها على التراجع. لقد ملأ هؤلاء بالفعل الشوارع طيلة عامين وأكثر احتجاجاً على تهميشهم وسحقهم اقتصادياً، وأسهموا إلى جانب آخرين في قلب نظامين عاتيين. والشيء الوحيد الذي يفتقرون إليه كما معظم الكتل الاجتماعية المنتفضة في مصر هو التنظيم الجيّد. لنقل إنّهم يحتاجون في مرحلة «أفول اليمين» إلى «التحشيد» على أساس الانتماء الطبقي، وهو أمر لا يقدر على توفيره إلّا اليسار الراديكالي، هذا «إذا بقي منه شيء». ثمّة ما هو أهمّ الآن ويتعلّق بالتطوّرات التي تحصل يوميّاً، وبتفاعل الكتل الاجتماعية معها أوّلاً بأوّل. وما يتبيّن للمرء بعد رصده للتفاعلات تلك أنّ المشكل الأساسي لم يحلّ بعد، فتدخّل الجيش ضدّ الإخوان لم يفعل رغم حتميّته التاريخية شيئاً للكتلة التي ما زالت تحتجّ وتشعر بالتهميش والإقصاء، كما أنّه أضاف إلى التهميش الحاصل أصلاً بعداً جديداً يتعلّق بكتلة الإخوان الاجتماعية، وهي في معظمها من الفقراء ومحدودي الدخل. وبما أنّ الكيان الذي يتضمّن برنامجه الاقتصادي إنهاء مشكلة التهميش من أساسها ــ عبر الآلية المسمّاة إعادة توزيع الثروة ــ غير متواجد فعليّاً على الأرض (إلّا في بعض المبادرات التي تحاول بناء كيان عضوي على علاقة فعلية بالناس ويتلمّس حلّ مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية، مثلاً: جبهة طريق الثورة ــ «ثوار» التي أسّسها مؤخّراً مجموعة من الناشطين والناشطات في اليسار أمثال علاء عبد الفتاح، رباب المهدي، خالد علي، وائل جمال، مصطفى شوقي، جيهان شعبان، سامية جاهين، خالد عبد الحميد، فاطمة رمضان، خالد البلشي، هيثم محمّدين، بسمة الحسيني، إبراهيم الهضيبي... إلخ) فهذا يعني أنّ الاحتجاجات ستستمرّ إلى ما لا نهاية، وستأخذ في طريقها هذه المرّة كلّ شيء بما في ذلك النهج السلمي الذي فاخرت به موجتا يناير ويونيو. والأكيد أنّ أحداً لن يستطيع بعد ذلك ضبط الفوضى التي ستنجم عن انفجار مماثل، حتّى الجيش سيعجز عن احتواء الأمر أو ضبطه، ولن يكون باستطاعته تكرار ما فعله في 3 يوليو الماضي. لذلك تحديداً ولكي لا ينفجر المجتمع على شكل ثورة جياع تأتي على الأخضر واليابس يجب على اليسار أن يتحرّك.
تأسيس «جبهة طريق الثورة» هي خطوة أولى، وما نأمله فقط أن يكون لدى القائمين عليها وعي كاف بالظروف التي تتكوّن حالياً أثناء الانتقال بالمجتمع المصري من لحظة اليمين الديني إلى لحظة... اليمين العسكري! في ظنّي أنّ المجتمع هناك بات بحاجة فعلاً إلى استراحة من اليمين.
لا بأس إذا استطاع اليسار ملء الفراغ الحاصل مرحليّاً، فالوضع متهتّك بما يكفي ليقبل الناس بمن يسدّ حاجتهم إلى العيش و... الكرامة. هذا ليس خياراً بالنسبة إلى اليسار وإنما هو ضرورة وجودية لإثبات أنّه قادر إضافة إلى برنامجه المعروف على صون وحدة المجتمع بطبقاته المختلفة.
* كاتب سوري