تنتهي الكثير من قصص الحبّ بشكل حزين. لكنها غالباً ما تكون قصص حب كاملة، امتدّت لسنوات وشهدت أفراحاً بقدر الخيبات التي قضت عليها. لكن قصة رودينا ملاعب وربيع الأحمد مختلفة. عمرها كلّه لا يتجاوز الشهرين ونصف الشهر. تعرّف الشاب إلى الفتاة في أيار 2013، تزوجها في 1 تموز، واقتصّ منه أهلها في 15 تموز. ورغم هذا الوقت القصير جداً، جاءت النهاية كارثية مغيّرة مصائر أبطالها بشكل مأساوي. فها نحن بعد ثلاثة أشهر على الزواج، أمام عريس يبحث عن علاج يعيد إليه عضوه الذكري وعروس عادت إلى منزل أهلها تشكو كذب زوجها عليها.
أما والدها، شقيقاها وخالها فقد انتقلوا إلى السجن ينتظرون الحكم القضائي بحقهم. مصائر مؤلمة للجميع، إلا أن أكثرها إيلاماً اعتقادنا أننا في منأى عمّا حصل. نتفرّج عليهم كمن يتابع مسلسلاً مشوقاً، ويبدو مقتنعاً بأن ما حصل لا يشبهه، ولا يمكن أن يتعرّض إليه يوماً.
هذا ما رسم للجريمة منذ وقوعها. التأكيد على أنها جريمة فردية بشكل يعفي الجميع من تحمّل مسؤولياتهم تجاهها. لقد ارتكبها شبّان انتصروا لما يسمّيه المجتمع «شرف العائلة»، الذي يدافع عنه الفقير عادة بما أنه كلّ ما يملكه. وهي غيرة على الدين، الذي يغار عليه أبناء الطائفة أكثر مما يفعل الله نفسه. لا داعي لأن يقلق السياسيون ويشغلوا أنفسهم بهذه القضية، فيما هم مشغولون بفهم ما يحصل اليوم بين أميركا وإيران. ولا داعي لأن تتصدّى الجمعيات المدنية لهذه القضية التي ستحرجهم، وتحرج مموّليهم. أما الناشطون المدنيون، فلا داعي لأن يتظاهروا كما عوّدونا أن يفعلوا. صحيح أن بلدة حرار العكارية وصلها الزفت، لكن سعر البنزين ارتفع ولا يمكنهم الوصول إلى هناك للتضامن مع ربيع الأحمد الذي بتر عضوه، ولا إلى بيصور للتأكيد على حق رودينا ملاعب في اختيار شريك حياتها... ولا حتى إلى ساحة الشهداء للهتاف والظهور على التلفزيون، والمناداة عرضاً بكفّ يد رجال الدين عن الأحوال الشخصية.

القرار الظني

لا داعي حتى لأن يخرج من يقول إن القرار الظني في هذه الجريمة، الذي صدر في 17 أيلول الفائت، خرج ليكشف عجز القانون عن مقاربة جريمة مماثلة. قانون يساوي أصبع القدم المقطوعة بالعضو التناسلي للرجل. ويبدو أن من غير المسموح القول إن هذه الجريمة تسبّب النعرات الطائفية وتحضّ على النزاع بين الطوائف. وكأن أحداً لم يسمع أو يقرأ ما قيل في الشارع اللبناني بحق الطائفتين السنية والدرزية. وكأن الموضوع انتهى ولا تداعيات اجتماعية له يمكن أن تردع كثيرين عن الإقدام على خطوة الزواج المختلط.
لقد خرج القرار الظني ليطلب محاكمة المتهمين (وسام ملاعب وولداه ربيع ورواد وخالهما شادي غريزي) بناء على المادة 557 من قانون العقوبات، التي تعاقب من يقطع عضو أحد الأشخاص بالأشغال الشاقة الموقتة لمدة عشر سنوات على الأكثر، فيما منعت المحاكمة عنهم في الجرائم الأخرى التي اتهمهم فيها الادّعاء.
واللافت في القرار الظني، أنه يذكر اعتراف المدّعى عليه ربيع ملاعب وحده بالإقدام على ضرب ربيع الأحمد ضرباً مبرحاً وقطع إحليله بواسطة سكين مطبخ، في حين أنكر بقية المدّعى عليهم ما نسب إليهم.
وكانت الجهة المدّعية طلبت الاقتصاص من الفاعلين على جرائم تنصّ عليها المواد 317 و217 و219 و569 (المواد 2 و4 و7) و549/201. وتعاقب هذه المواد، تدريجياً، على الأعمال التي ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحضّ على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة. كما تلاحق المحرّضين على ارتكاب الجريمة، ومن يحتجز الحرية الشخصية لأحدهم ويوقع به الأذى لأسباب طائفية أو حزبية. أما المادتان الأخيرتان (549/201) فتطلبان بالاقتصاص من الفاعلين على جريمة القتل العمد حتى لو لم ينجحوا في ذلك.
هذا القرار استأنفه كلّ من وكيل ربيع الأحمد، المحامي هشام شبيب، والنيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان برئاسة القاضي كلود كرم.
ويرى شبيب أن هذا القرار الظني غير منصف بحق ربيع، آملاً أن ينجح من خلال الاستئناف في تأمين جلسة تحقيق ثانية. فلدى المدّعي ربيع الأحمد الكثير ليقوله، والأدلّة ليقدّمها، ليثبت حقه.

أين أخطأ الأحمد؟

لكن ما نفع ما سيقوله إذا كان العقاب الأقسى الذي سيتعرّض له المرتكبون لن يتجاوز الثماني سنوات وستة أشهر من السجن بناء على القرار الظني الحالي، في حين يبدو مستحيلاً الأمل بالحصول على تعويض مالي يسمح بإجراء عملية تعيد إليه ما فقده. فالتعويض لا يمكن تحصيله إلا بعد وقت طويل، في حين أن حالة ربيع لا تتحمّل التأخير. كل يوم يمرّ من دون إجراء العملية يخفّف من نسب نجاحها. هذا عدا عما يمكن تحصيله من العائلة مقابل تعويض. فهي حتى لو قررت بيع كلّ ما تملكه بالمزاد لن تستطيع تأمين الكلفة التي يحتاج إليها ربيع لإجراء عمليته.
هذا هو الهمّ الأساسي الذي يشغل بال ربيع حالياً، إجراء العملية التي قيل له إنها تكلّف قرابة 300 ألف دولار لا يملك منها شيئاً. ربّ عمله هو الذي يعطيه اليوم ثمن الأدوية التي يحتاج إليها «وقد أنفق عليّ حتى اليوم أكثر من 10 آلاف دولار». هذا عدا عن أن العملية غير مضمونة النتائج.
يكرّر السؤال أمامنا «أين أخطأت؟ كثيرون يتزوجون شليفة. راهنت على الوقت ليصلح الأمور مع عائلتها كما يحصل عادة». ربيع كان يتحدّث فيما فنجان القهوة وقنينة المياه أمامه على الطاولة. على مدى أكثر من ساعتين، اكتفى برشف بعض القهوة وترك القنينة مقفلة كما قدّمت إليه. «أتجنّب المياه كي لا أدخل إلى الحمام كثيراً».
على الرغم من هذا الوضع، لا يزعج ربيع الإجابة على أسئلة «الأخبار» التشكيكية به. نسأل: «هل طلبتَ رودينا من أهلها فرفضوك، حتى قررت الزواج منها خطيفة؟». يجيب: «لا، لم أطلبها من أهلها». «ألا تعتقد أنك أخطأت هنا؟ في العادة يُرفض الشاب، ويُطرَد، فيقدم على الخطيفة؟». «رودينا جزمت لي بأن أهلها لن يوافقوا، وهي من حدّد يوم الخطيفة في 1 تموز وليس أنا بسبب المشاكل الكثيرة في بيتهم. أنا كنت أنوي الزواج منها نهاية الشهر أو في منتصف آب لكنها حدّدت الوقت واتصلت بي لكي آتي وآخذها». لكن «كيف يمكن لشاب في الأربعين أن يقرّر الزواج خلال شهرين من فتاة لم يلتق بها إلا ثلاث مرات؟ ألم تستغلّ فارق العمر بينكما؟». يجيب: «أنا أرغب في الزواج والاستقرار، وهناك كثيرون يتزوجون مع هذا الفارق في العمر. أنا أحببتها وتزوجتها شرعياً، ولم أفعل شيئاً آخر كان يمكنني أن أفعله».

رودينا: أنا المحرّض

لا تنفي رودينا ملاعب هذا الكلام، لكن لديها ما تضيفه. في إطلالتها الأخيرة على شاشة «أم تي في» ضمن برنامج «تحقيق»، كنّا أمام شابة جميلة. لم تنس، كما الكثير من فتيات جيلها، أن تضع بعض الكحل في العينين وتلوّن شفتيها باللون الزهريّ. أعدّت القهوة في مطبخ العائلة المتواضع، وجلست مع الضيوف، تتحدّث بعفوية أمام الكاميرا، لتكون هي الراوي الثاني لحكاية زواجها من ربيع... لكن عن أي ربيع نتحدّث؟
لقد تغّير اسم العائلة في رواية رودينا. تقول الشابة إنها أحبّت رجلاً اسمه ربيع لطيف بو دياب، من بلدة الجاهلية الشوفية. أما الشاب الذي تزوّجته، ووقع عليه عقاب أهلها، فهو ربيع عبد اللطيف الأحمد من حرار العكارية. وفي بلدة مثل بيصور، يكفي أن يتغير اسم العائلة من بو دياب إلى الأحمد، ليتغيّر كلّ شيء. يمكن قلب ابنة التسعة عشر ربيعاً أن يتوقف عن الطرق، ويمكن العروس أن «تحرج» زوجها وتجبره على الذهاب إلى منزل أهلها بهدف «الصلحة»، ويمكنها عندما تصل إلى البيت أن تطلب من والدها أن يخلّصها منه.
كلّ هذا يصبح ممكناً، وقد يبدو مقنعاً للبعض خصوصاً إذا كانوا من أهالي بيصور. قد يفاجأ القارئ اليوم، إذا عرف أن هناك في هذه البلدة الجبلية من يرفض تسمية ما حصل بالجريمة، ويرى أن ربيع استحق العقاب الذي نزل به. الأكثر تسامحاً يكتفون بالقول إن «الطرفين أخطآ، لكن الغلط بلّش من عند البنت».
هذا «الغلط»، هو الذي تحاول رودينا أن تكفّر عنه اليوم. فتقدّم روايتها التي تتهمّ فيها زوجها ربيع بالكذب عليها، وتعلن أنها هي من طلبت من والدها إنقاذها منه بعدما ساءت معاملته لها. تقول كلمتها، متجاهلة الأسئلة التشكيكية التي قد تطرح عليها هي أيضاً. فلمَ ست5تزوّج خطيفة لو كان ربيع درزياً؟ ولماذا لم تغيّر رأيها عندما وجدت نفسها في حضرة رجل دين شيعي؟ هل أعمى الحبّ قلب الفتاة، فصدّقت أنه «درزي يبحث عن جذوره» كما قالت لنا؟
تتجاهل رودينا كلّ هذا، وتقول بلهجة لا تردّد فيها «قلت لأبي خلصوني منه». في إطلالتها الأخيرة، خرجت رودينا لتقول: أنا لست ضحية، بل أنا المحرّض المباشر على الجريمة، التي وضعت رجال العائلة في السجن، «فيما المجرم طليق» تقول الأم نورما باكية.

البتر باسم الدين

رجال العائلة في السجن. الأب والشقيقان والخال، ومتهم خامس لا يزال متوارياً. لكن هذه ليست أول «خطيفة» تحصل في لبنان حتى يعدّ الأمر خطيئة تستحق هذا العقاب القاسي. كما أن زعماء الطائفة الدرزية متزوجون من خارج مذاهبهم. فلماذا يدفع ابن عكار هذا الثمن؟ أو لصياغة السؤال بشكل أفضل: لماذا لم تتحمّل عائلة وسام ملاعب هذا «العار» الذي ألحق بهم بسبب زواج ابنته من شاب ينتمي إلى طائفة مختلفة؟
القراءات في علم النفس الجرمي قد تقدّم إجابة على هذا السؤال، إذ تفيد الدراسات أن «أساس السلوك الجرمي هو السلوك الدفاعي الذي يقوم به المجرم في مواجهة بيئته». وهذا ربما ما يجعل المتخصّص في علم النفس العيادي الدكتور عباس مكي يقول إنه لم يتفاجأ بالجريمة «فالفاعل ضحية نظام اجتماعي عنده قيم وعادات وتقاليد». حتى أنه يتفهمّ عدم استنكار الناس لهذه الجريمة «لأن هذا الساطور يبتر باسم الدين والطائفة».
هكذا، يكون على ربيع ورودينا، اللذين ارتكبا «جريمة الخطيفة» أن يقبلا بالقصاص الذي أنزله المجتمع بهما. فيحرم هو من حياته الجنسية ومن تأسيس عائلة، وتقبع هي في المنزل منتظرة خروج رجال العائلة من السجن.
هي مأساة، كان يمكن أن تتغيّر الكثير من فصولها لو أننا نقيم في دولة، أو لو أن أبطالها لم يكونوا من الفقراء الذين تجرأوا على الحب والحلم.