ليس الغرض من هذا الكتاب تأريخ المسيرة العمرانية أو الاجتماعية لبلدة الشوير، بل هو رصد لنبض الحياة في هذه البلدة عبر ملف مصوّر يوثّق حياتها وعمرانها ومظاهرها الاجتماعية والفردية في فترة زمنية تمتد من العقد الأخير للقرن التاسع عشر إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي. يتوزع هذا الملف المرئي على مصادر ثلاثة: الأول يشكل الأكثرية الساحقة من الصور المنشورة في هذا العمل وتعود إلى مصوّرين شويريين. والمصدر الثاني يعتمد على البطاقات البريدية التي تعود إلى مصوّرين لبنانيين وأجانب نشطوا في بيروت، وأصدروا بطاقاتهم وتنافسوا في ما بينهم لنشر العديد من المناظر للأماكن المشهورة ولمراكز الاصطياف.
أما المصدر الثالث، فيعتمد على الصور الشخصية بأسلوب (Cartes de Visite) أو صور العرض (Cabinet portrait) التي التقطت في الشوير أو في المغتربات لمهاجرين شويريين بلباسهم التقليدي. وبالإضافة إلى ذلك، رأيت أن أتناول في فصلين الخلفية العمرانية التاريخية الثقافية والاقتصادية للبلدة، وما يعرف عن المصورين وأساليب التصوير لوضع الصور في مسارها التاريخي التقييمي المفيد. راودتني فكرة نشر هذا العمل منذ عام 1988 عندما حصلت على مجموعة تفوق المئة صفيحة زجاجية مصورة تقدمة من السيد وليم وديع مجاعص، كان قد التقطها والده في الشوير.
الزجاجيات المصورة هي عبارة عن قطع من الزجاج مختلفة الأحجام ثبّت عليها المصور المشهد الذي التقطه، مستعملاً مواد كيماوية خاصة، وكان ذلك الأسلوب في التصوير هو الرّائج في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لم تكن تلك الصور كافية لإنجاز كتاب مستقلّ. لذلك عملت على اقتناء ما توفر من بطاقات بريدية قديمة عن الشوير، واستعنت ببعض البطاقات التي تعود إلى مجموعة الصديق الراحل فؤاد قيصر دباس، وذلك بموافقة مشكورة من شقيقيه السيدين أنطوان وروبير دباس. وحاولت عبر هذا الجهد إغناء المجموعة الأولى. لكن هذه الجهود ظلت قاصرة عن مبتغاي حتى شتاء العام الماضي عندما أخبرني الصديق نبيل أبو خير بوجود مجموعة للبيع من مئات الزجاجيات المصورة التي التقطها المصور الشويري نسيب نصر خنيصر.
وبالفعل، اقتنيت المجموعة التي فاق عددها الأربعمئة زجاجية، إلا أنّ القسم الأكبر منها للأسف كان قد تعرّض للتلف بسبب تسرّب المياه إليه. كما أنّ قسماً آخر كان محطماً بشكل جزئي وتعذر عليّ إنقاذه. مع ذلك، كانت كمية الصور التي التقطها كل من وديع سبع مجاعص ونسيب نصر خنيصر كافية لإصدار هذا العمل. والمجموعتان المذكورتان تشكلان العمود الفقري الذي استند إليه هذا الكتاب. وهكذا في مطلع صيف 2012 بدأت التحضير لهذا البحث، محاولاً قدر الإمكان استقاء المعلومات عن المصورين الشويريين. وكان ذلك أمراً صعباً نظراً إلى عدم وجود وثائق مكتوبة، ولوفاة معظم الذين عاصروا أعمال أولئك المصورين.
بالطبع، الصور المنشورة في هذا الكتاب ليست سوى جزء من مئات الصور التي التقطت في الشوير من قبل سبعة مصورين شويريين على الأقل. وأعتقد أنّ العديد من الأسر الشويرية، سواء كانت في المهجر أو في الوطن، لا تزال تحتفظ بكثير من الصور، على رغم الأحداث السياسية العاصفة التي تعرض لها الشويريون، وأدت إلى تلف العديد من الصور والوثائق. كانت بداية تلك الأحداث الملاحقات والاعتقالات التي سبقت وتلت اغتيال أنطون سعادة سنة 1949، ثم تواصل الاضطهاد والاعتقال أثناء فترة حكم المكتب الثاني الشهابي في مطلع الستينيات من القرن الماضي. ثم كانت الضربة الرئيسية خلال فترة الحرب الأهلية الأخيرة، حيث واجهت الشوير الميليشيات المذهبية المتحالفة مع «إسرائيل»، ولا تزال آثار تلك المواجهات بادية على البلدة حتى يومنا هذا.
كل تلك العوامل أفقدت البلدة كثيراً من الوثائق المكتوبة والمصورة. لا أدّعي إطلاقاً أن هذا الملف المصور هو الكلمة الفصل في توثيق البلدة فوتوغرافياً، لكنه بالتأكيد اللبنة الأولى في هذا المجال، والذي آمل أن يحرّض الذين يملكون صوراً عن هذه البلدة، فيعمدوا إلى المحافظة عليها وجمعها تحت سقف واحد مستقبلاً. بعد اطلاعي على مئات الصور التي التقطها المصوران نسيب خنيصر ووديع مجاعص، تأكد لي وفق المعلومات والاستقصاءات أن الشوير هي ـــ على الأرجح ـــ البلدة الوحيدة في جبل لبنان التي تحوي هذا الكم الضخم نسبياً من الصور الفوتوغرافية. والسبب في كثافة الصور التي التقطت في الشوير يعود، باعتقادي، إلى عدة عوامل، منها المستوى التعليمي المتقدم ورغبة سكان البلدة والقرى المجاورة في التقاط صور شخصية وعائلية لهم، سواء لاستعمالها في المعاملات الرسمية أو في جوازات السفر، إضافة إلى رواج التقاط الصور لتزيين المنازل أو إرسالها إلى المغتربين. ومن دون أدنى شك، فإن هذه الوثائق المصورة هامة جداً وأساسية لأية دراسة مستقبلية تتناول التطور الاجتماعي والعمراني للبلدة في فترة تزيد على الستين عاماً ونيف. أما عن بنية هذا الكتاب، فهي تتكون من ثلاثة أقسام: القسم الأول عبارة عن لمحة تاريخية مقتضبة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلدة خلال النصف الأول من القرن العشرين. في تلك الفترة، التقطت هذه الصور التي هي من دون أدنى شك انعكاس لمتطلبات وأنماط الحياة في متحد الشوير.
القسم الثاني يضمّ ما تيسّر لي جمعه من معلومات عن المصوّرين الشويريين الذين لولاهم لما كان بالمستطاع إصدار هذا العمل. لقد جمّد هؤلاء المصورون لحظات من الزمن على سطح الصفائح الزجاجية التي حفظت لنا صوراً لوجوه غابت، ولبيوت عديدة هدمت، ولأزياء وطرق حياة انقرضت. القسم الثالث والأخير هو مجموعة مختارة من الصور قمت بتبويبها حسب المواضيع، فأفردت لها الأقسام الآتية: مناظر طبيعية، مبانٍ قديمة، وجوه باللباس التقليدي، قبضايات، مناسبات عامة (الأعراس والمآتم)، وفنادق، إلخ.
أودّ أن أشير هنا إلى بعض النواقص التي اعترت هذا الكتاب والتي تعذر عليّ تفاديها. إن عديدين من مسنّي القرية الذين عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين قد توفّوا، لذلك كان من الصعب جداً التعرف على كثير من الوجوه وبعض الأماكن بسبب بُعد الفترة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ التقاط تلك الصور. كذلك لا بد من الإشارة إلى أن تواريخ التقاط الصور تقريبي. لقد أسهم عدد من مسنّي الشوير في تحديد أسماء بعض الأشخاص الذين التقطت صورهم، وكانت هناك في حالات محدودة خلافات حول اسم الشخص، لذلك رأيت أن أنشر الأسماء كما وردت إليّ، علماً بأن بعضها قد يكون غير صحيح. لذلك اقتضت الإشارة إلى هذا الأمر الذي، برأيي، لا يؤثر في مضمون الكتاب. إضافة إلى ذلك، من المحتمل أن لا تكون بعض الصور المنشورة في هذا العمل لمواطنين شويريين، بل لأبناء القرى المجاورة. لذلك رأيت لفت النظر إلى هذا الأمر.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ السؤال الآتي: لماذا هذا الكتاب عن الشوير، وليس عن أية بلدة أخرى؟ من البديهي القول إن الكمية الضخمة من الصور التي توافرت لديّ عن هذه البلدة كانت عنصراً رئيسياً في إنجاز هذا العمل.
لكن السبب الأساسي بالنسبة إليّ هو كونها بلدة سعادة. هنا، على هذه الروابي، وبين تلك الأحراج والينابيع والتلال والأودية، عاش سعادة سنوات قليلة جداً من عمره القصير، يكتب ويعمل وينظم، ويتوارى عن أنظار رجال الانتداب وزبانيتهم. وقد عبّر هو نفسه في أكثر من مرة عن ارتباطه بمسقط رأسه، فكتب في سان باولو سنة 1924 قائلاً: «سلام على ربوع أبصرت فيها نور الحياة للمرة الأولى ـــ ربوع في ظلال خمائلها نموت، وتحت سمائها ترعرعت، ربوع تشرّبت نفسي أنفاسها فأحببتها من كل قلبي وبكل جوارحي ـــ ربوع فارقتها مفارقاً فيها آمالاً هي شطر من نفسي، وقسم من حياتي ـــ ربوع تركت في هضباتها وأوديتها دمعات وابتسامات، وتركت بقلبي غصات أليمات». هذا الكتاب يضم صور أناس أصبح معظمهم الآن رفاتاً. لم أجد تعليقاً معبّراً عن تلك الوجوه والعيون المحدقة بعدسة آلة التصوير، أختتم به هذه المقدمة، أفضل من عبارة للناقد الفرنسي رولان بارت حين وصف شعوره وهو ينظر إلى صورة قائلاً: «منذ فترة وقعت بين يدي صورة جيروم، الأخ الأصغر لنابوليون التقطت سنة 1852، وقد
اعتراني منذ تلك اللحظة شعور لم يفارقني بأنني أحدّق في العينين اللتين شاهدتا الإمبراطور».
بدر الحاج
الشوير صيف 2012
«الشوير وتلالها ــ سجل مصوّر»
(دار كتب ــ 2013)