يبدو واضحاً أن جواً من التململ يسود بعض أوساط فريق الرابع عشر من آذار، ومن ضمنه بعض تيار المستقبل، من السياسة التي تنتهجها المملكة العربية السعودية في الشأن اللبناني. «الرياض رفعت أيديها عنّا». هذا ما يخلص إليه «المتململون» في فرضية استناداً إلى استنتاجات لم تثبت واقعيتها بعد، فيما لا كلام صريحاً من السعوديين، ولا جواب واضحاً لدى المستقبل الذي يظهر وكأنه خارج «عصر التسويات».
يُصرّ مقربون من الرئيس سعد الحريري على أن جهة سعودية ما اتخذت قراراً بمعاقبته، إما بسبب قصوره في مواجهة حزب الله، أو ربما بسبب إخفاقه في دعم «الثوار السوريين» كما يجب. يستبدّ القلق بهؤلاء من الجفاء السعودي، و«تأكلهم الغيرة» من لقاءات السفير السعودي علي عواض عسيري بالعماد ميشال عون والوزير جبران باسيل. يترك ذلك انطباعاً لديهم بأنهم متروكون، وأن لا نية لدى المسؤولين في الرياض للتشاور مع حلفائهم اللبنانيين، كما في السابق. المشهد، باختصار، بالغ الخطورة بالنسبة إلى تيار لطالما استمدّ قوته من دعم الرياض له، سياسياً ومالياً.
«إفلاس وجمود». كلمتان تختصران الوضع العام لتيار الحريري في لبنان. خلاصة الأمر أن «الزرق» يمرّون في أصعب أوقاتهم. تغيّر السياسة السعودية ليس وليد الساعة، ولا حتّى نتيجة طبيعية لانشغال الرياض بأحداث سوريا، برغم أنّ التطورات الشامية، السياسية والأمنية، تساهم في تفاقم المشكلة. المستقبليون «الأقحاح» الضالعون في سياسة الرياض اللبنانية منذ عهد الرئيس رفيق الحريري، رصدوا نذر هذا التبدل منذ خمس سنوات. وهم يعزون ذلك إلى «اعتراض سعودي على إدارة سعد الحريري وكفاءته، بدءاً برئاسته للحكومة، مروراً باتفاق سين ــــ سين، وصولاً إلى الانقلاب على حكومته ونفيه خارج البلاد». خلال كل هذه الحقبة، تميّزت سياسة الرياض بالتأرجح، سياسياً ومالياً، تجاه حلفائها، وتحديداً المستقبل الذي تعاني مؤسساته منذ فترة طويلة من أزمة مالية حادة، فيما يعجز مسؤولوه عن فرض أنفسهم سياسياً وشعبياً، «في ظل تبدل مزاج الشارع السني واتجاهه نحو التطرف». ويرى هؤلاء في «عدم تحرك السعودية بشكل فعّال، بعد إخراج حلفائها من الحكم في لبنان عام 2011، تبنّياً واضحاً لسياسة التسليم المرحلي بأمر واقع انتقال السلطة الى قوى 8 آذار».
كل هذه المعطيات المتراكمة تشير إلى أمر ما يجهله تيار المستقبل نفسه. وفي انتظار تكشّف الأسباب، لم يعد بعض من في التيار الأزرق قادراً على كتم انزعاجه من «ترجمة الغضب السعودي من الحريري معاقبة جماعية لكل السنّة في لبنان. فقيرهم وغنيّهم. قويّهم وضعيفهم». ويتساءل هؤلاء عن «الأسباب الموجبة لقرار الاقتصاص الذي يؤدي إلى انهيار المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية السنية التي تجد نفسها مضطرة إلى بيع أملاكها في كثير من الأحيان». فالاعتراض السعودي على سياسة الحريري «لا يبرّر قرار معاقبة السنة، فيما تقوم سياسة الخصوم على الدقة ومتابعة الأمور بالتفصيل الممل، إلى حدّ أن السفير الإيراني في لبنان غضنفر ركن أبادي، مثلاً، زار زحلة لإقناع الوزير السابق إلياس سكاف بعدم فكّ تحالفه مع العماد ميشال عون». في المقابل، تبدو المملكة شبه غائبة؛ فـ«لا لقاءات مع المسؤولين السعوديين، ولا اتصالات ولا حتّى تنسيق» مع فريقها الذي يحتاج إلى دعم كامل في الشكل والمضمون.
حدس بعض المستقبليين لا يختلف عن حدس الحريري، بحسب مصادر مطلعة. فالأخير «فقد الشعور بأنه الابن المدلل للبلاط السعودي». لكن كل من يزوره أو يتواصل معه يؤكّد «عدم رغبته في نقاش الأمر مع أي كان، لا في لبنان ولا الرياض»؛ لأنه حريص على عدم التفوّه بما يمكن أن «يزيد الطين بلّة»، ولا سيما أن مصالحه الاقتصادية موجودة في «قبضة أصحاب العباءات الملكية».

«أنصار الرياض»

وفيما لا يملك «فريق المتململين» الآذاري ــــ المستقبلي الكثير مما يقوله في قراءته لما يرى فيه «تبدّلاً» في السياسة السعودية داخل لبنان، فإن في جعبة «أنصار الرياض» داخل التيار كمّاً هائلاً من التحليلات والأعذار المرتبطة، جميعها، بالوضع السوري؛ «فهناك تقود المملكة معركة الدفاع عن هويتها ونفوذها في المنطقة». بالنسبة إلى هؤلاء: الرياض ليست نائمة، ولا منكفئة، وهي لم ترفع يدها عن حلفائها كما يحاول البعض تصويرها. أما في الموضوع اللبناني، فإنّ «انتقال السياسة السعودية من سياسة دعم فريق ضد فريق، إلى الانفتاح على كل الأفرقاء، يعود إلى اتفاق سعودي ــــ أميركي بتحييد لبنان وعدم استخدامه معبراً لإسقاط نظام بشار الأسد».
ورغم إقرار «الأنصار» بأنّ الوضع التنظيمي والسياسي والمالي والإعلامي لـ 14 آذار في لبنان ليس في أفضل أحواله، إلا أنهم يشدّدون على أن المملكة «لم تُقصّر مع اللبنانيين، ولا مع الطائفة السنية، لكنها باتت تفضل التعاطي مع لبنان كدولة، لا كفصائل». ويستدل هؤلاء على ذلك بمقتل الشيخ أحمد عبد الواحد على حاجز للجيش اللبناني في عكّار في نيسان 2012، «يومها وجّهت المملكة رسالة إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، لا إلى رئيس الحكومة السني، حمّلته أمانة الطائفة السنية». وعلى هذا الأساس «فُتحت أمام سليمان أبواب مجلس التعاون الخليجي، في ربيع 2012، وعلى هذا الأساس أيضاً استُقبل في المملكة، وانطلقت في ما بعد طاولة الحوار بمشاركة 14 آذار، باستثناء رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع». ومنذ سنتين «تمسك الرياض العصا من منتصفها، وتسعى إلى تحقيق توازن مع جميع الأفرقاء اللبنانيين».
ويلفت هذا «الجناح» إلى أن الاتفاق السعودي ــــ الأميركي على تحييد لبنان لا يعني بالضرورة سير الرياض في ركاب الانفتاح بين واشنطن وطهران. «السعودية ترفض السير في السياسة الأميركية الجديدة، وهي ترى أن مواجهتها مع إيران معركة متكاملة، إذ لا يُمكن أن تحارب طهران في سوريا وتصادقها في لبنان». لذلك، «تجمّد الرياض سياستها في لبنان لعدم إحراج حلفائها، إما لأن لا قدرة لهم على المواجهة، وإما لأنها لا تريد أن تضعهم في حرب مع الطرف الآخر». ويتساءل هؤلاء: «إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن الذي حمى الساحة الداخلية، بعد سنتين من اندلاع الأحداث في سوريا، مع هذا العبء من النازحين، وهذا الكمّ من اللااستقرار، والسيارات المفخّخة والتشكيك بالقطاع المصرفي وقدرات الجيش؟». وهم يخلصون إلى أن فريق 14 آذار لم ينظر يوماً إلى المملكة كطرف داعم للطائفة السنية لإحداث توازن مع الطائفة الشيعية المدعومة من إيران. لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن الرياض دخلت في مغامرة خلق توازن بين هذا الفريق وحزب الله، انتهت في أيار 2008 باتفاق الدوحة. وهي، اليوم، ترى أن مركز الحدث سوريا وليس لبنان، «لذا تضع كل إمكاناتها هناك، ما ينعكس تقصيراً تجاه حلفائها في الداخل».