الرياض في حالة صدام سياسي علني مع واشنطن. إنها، السعودية، ترتعد من تركها وحيدة في مواجهة التحديات، وتصرخ من الألم، ما يدفعها إلى سلوك لاعقلاني: تواصل، رغم التسوية الأميركية ــــ الروسية، تسعير الحرب في سوريا، وترفض مقعد«ها» في مجلس الأمن، وتدين المنظمة الدولية، لكونها لم تنجح في الإثم والعدوان، بل وتتجه نحو التوازن النسبي في إدارة العالم. فأين الملاذ سوى الدولة القوية المارقة، إسرائيل؟
لعل المفهوم المرن القائل بالاصطفاف السياسي والاستقلالية النسبية في إطار التبعية الهيكلية، هو الذي يمكننا من فهم ما يحدث اليوم بين «العميل» السعودي والسيّد الأميركي؟ افتراق وتشاحن؟ أم تناقض يبحث عن حل جذري؟ على كل حال، ليس هذا مجرد حَرد بين الأحباء، بل هو تعبير عن مرحلة إعادة تأسيس شاملة قد تتطلب بروسترايكا سعودية، لا نستطيع أن نحدد مداها منذ الآن، ولكنها ستشمل، بلا ريب، انسحابا من البحرين، ومن شؤونه، وإصلاحات سياسية واعترافا بالشيعة كمواطنين كاملي المواطنة، وربما بإدارة ذاتية في المنطقة الشرقية، وتسويات مع القبائل المفقرة والمهمّشة، وكسر شوكة المملكة في جنوب البلاد واليمن، ووضع أسس المصالحة مع الحوثيين، ثم مَن يدري هل ستبقى المملكة واحدةً أم تغدو أربعاً، وهل تظل الحجاز سعوديةً، أم آن الأوان لقيام دولة الفاتيكان الإسلامية في مكة؟
طالما كانت الولايات المتحدة تخوض الحرب على الخصم الشيوعي، كانت السعودية حليفاً استراتيجياً رئيسياً، ليس في مجالي النفط والأمن فقط، بل أيضاً، وفي الأساس، في المجال الأيديولوجي؛ فالرجعية السعودية الوهابية، الوالدة الشرعية والراعية الرسمية للإرهاب الإسلاموي حول العالم، كانت جزءاً لا يتجزّأ من الجبهة الأيديولوجية الأميركية. وكانت ذروة صدامات وانتصارات هذه الجبهة، بعد الاستيلاء على مصر في ظل السادات، هزيمة السوفيات في أفغانستان، تلك الهزيمة التي انتهت بتفكك المنظومة الاشتراكية.
في تلك اللحظة التاريخية، تحوّل الفائض الرجعي الإرهابي السعودي إلى عبء عالمي، انفجر في 11 أيلول الشهير في نيويورك نفسها. وكانت هذه، رغم الحدث الكبير، مناسبة ملائمة للولايات المتحدة الباحثة عن عدوّ لما بعد الشيوعية. لكن المشكلة، هنا، أن الإرهاب الإسلامي، العدو الايديولوجي الأمني الجديد للغرب، هو، في جذوره وثقافته وحركيته وآلياته، نتاج الدولة الشرق أوسطية التي تمثل الحليف الأساسي لواشنطن. حلَّ الجمهوري اليميني جورج دبليو بوش هذه المعضلة بتحميل وزر الإرهاب الإسلامي إلى عدو واقعي هو في الواقع عدو علماني، أي نظام صدام، ثم وجد في إرهابيي القاعدة وسيلة لتحطيم المضمون الوطني التحرري للمقاومة العراقية، ودفعها نحو الانزلاق إلى إشعال الحرب الطائفية والمذهبية في العراق، ما أتاح تعادلاً في الهزيمة بين الأميركيين والعراقيين: احتلال مقبور، ودولة شبه فاشلة.
نشط الأميركيون لاستيعاب الظاهرة الإرهابية من خلال صفقة كبرى مع الإخوان المسلمين، الحركة الجماهيرية البراغماتية ذات الميول الرأسمالية الليبرالية، والجاهزة للتفاهم مع إسرائيل، والقادرة ــــ وهو الأهم ــــ على تشكيل عباءة تجمع كل الظواهر الاسلامية، المتطرفة والإرهابية، في سياق سياسي مضبوط أميركياً. وكانت هذه، بالذات، فحوى سياسة أوباما الشرق أوسطية، المؤسسة على «نجاح» الإخوان المسلمين الأتراك في إدارة الدولة والاقتصاد في أهمّ بلد مسلم سنّي وحليف تقليدي لواشنطن وعضو في الأطلسي. وقد كان الربيع العربي هو السياق الملائم لتشبيك محور إقليمي يدير المصالح الأميركية، ويتفاهم مع إسرائيل، ويحجّم إيران.
وبهذه الأداة المعقدة ــ التي تستوعب الليبراليين أيضاً ــ أدارت واشنطن حربها الضروس الأخيرة على سوريا، المعادية لإسرائيل والحليفة للمقاومات وإيران. ذلك أن هدم سوريا سيؤدي إلى هدم المعبد كله. وقد بدت إمكانية خوض حرب ذات جدوى عالية من دون كلفة بالنسبة إلى الأميركيين فرصة واعدة حطمها الصمود السوري، فانتقل الملف إلى السعودية وإرهابييها، ومن الإخوان إلى التكفيريين.
مرة أخرى أصبح الإرهاب الإسلامي عبئاً شرق أوسطياً وعالمياً. وبينما الولايات المتحدة تتراجع، قرر المطبخ السعودي المضيّ قدماً حتى آخر المشوار في سوريا والعراق معاً. إنه خطأ استراتيجي سيكلّف السعودية غالياً؛ فالتفاهم الدولي وقع على أساس حل النزاعات وتبادل المصالح في الشرق الأوسط سلمياً. ولعل تعاظم قوة الإرهاب في سوريا هو واحد من الضغوط الأساسية وراء تلك التفاهمات. وإذا كانت تصفية الإرهاب عسكرياً وأمنياً غير كافية لوأده، فإن غلق مصدره يعني، تحديداً، إحداث تغيير نوعي في البنية السياسية والثقافية السعودية، ولدى الفشل في ذلك، سيكون تغيير الهيكل الجيوسياسي السعودي قد أصبح على جدول الأعمال.
السعودية: بروسترايكا عاجلة أو اشتعال على كل الجبهات.