كيف تنجح في مقاربة لبنان الثمانينيات روائياً إن لم تعتمد بعداً يوازي السوريالية، يتمرّد على المألوف، نوعاً من مقاربة غريزية لا يكبحها العقل وتفضي إلى ما يشبه التراجيديا الإغريقية؟ الصحافي في «لو كانار أنشيني» والمراسل الحربي السابق لصحيفة «ليبراسيون» سورج شالاندون (1952) شاهد مباشر على الحرب الأهلية اللبنانية، لم تفارقه صورها حتى اليوم، وخصوصاً جثث صبرا وشاتيلا.
حين كان يكتب تحقيقاته الصحافية، كان يضع مشاعره جانباً لوصف الحرب بمبضع الجرّاح البارد. لكنّها كانت حاضرة، تلتهمه من الداخل. ومن هنا، قرّر الصحافي الفرنسي كتابة رواية كي «يخرج دموعه» كما قال. هكذا، عاد شالاندون إلى لبنان من خلال روايته الجديدة «الجدار الرابع» (غراسيه)، ليهزّ الحدود بين الذاكرة والنسيان، وبين الحقيقة والخيال.
في الرواية، يأتي جورج، بطل الرواية (صنو شالاندون) إلى بيروت من أجل تحقيق حلم جميل ومجنون راود صديقه اليهودي صموئيل المصاب بالسرطان: تقديم مسرحية «أنتيغون» لجان أنوي في بيروت عام 1982 مع ممثلين من مختلف الانتماءات الطائفية، ما يعني سرقة ساعتين من الحرب من أجل «هدنة شعرية».
لماذا «أنتيغون»؟ لأن النصّ المكتوب عرض في مسرحية عام 1944 متحدّياً الحكم النازي، المرحلة الأكثر ظلاماً في حياة صموئيل الذي توفي والداه في أوشفيتز، ولأنّ «أنتيغون» هي تلك التي تقول «لا»، ولأنّ الموضوع هو قصة تتعلّق بأرض وكبرياء. ولماذا «أنتيغون» لأنوي وليس لسوفوكليس؟ «لأنّها تتمرد ضد إنسان وليس ضد
إله».
ورغم أنّ الراوي يبيّن تعاطفه الواضح مع القضية الفلسطينية، فهو لا يحكم على أحد ويدفعنا إلى حبّ الشخصيات التي تنتمي إلى مذاهب وتيارات ومعسكرات مختلفة. هو ينتقد عبثية الحرب الأهلية التي يصفها بقتال الأخوة، وينتقد إسرائيل على الدمار الهمجي الكبير الذي ألحقته ببيروت.
باختصار، يرفض كلّ المجازر، مجزرة صبرا وشاتيلا ومجزرة الدامور، والشوف والتهجير، والتشرد، ويرفض كلّ معاملة مذلّة للمدنيين والمخاطر المستمرة على خطوط التماس.
ورغم اختيار مكان «محايد» للمسرحية، ليس في «الغربية» ولا «الشرقية»، بل عند خطّ التماس، إلا أن الممثلين منحوا «أنتيغون» طابعاً مذهبياً. إيمان التي تجسّد شخصية أنتيغون فلسطينية، وخطيبها هيمون درزي من الشوف، وشربل الذي يؤدي شخصية كريون ملك طيبة، ماروني من الجميزة، والحراس شيعة. هنا، فالمسافة التي «تؤخذ من تفاهة الدراما» التراجيدية تخفف من الإحساس بالشفقة الذي قد يطغى على إعادة تمثيل عمل كلاسيكي. من شأن تناقض شخصيات أنوي أن يعطي الممثلين اللبنانيين الحرية الكاملة ليصبحوا أنفسهم أو أشخاصاً مغايرين في الحرب وفي العالم الخيالي. المضحك أنّ شربل نال موافقة أخيه القوّاتي لأداء دور كريون بعدما تأكّد شقيقه أنّ كريون سيسحق أنتيغون! أما الأخيرة، فقد رحّب بها الفلسطينيون بوصفها ناطقاً باسمهم تدافع عن قيمهم وقضيتهم. ليست المرة الأولى التي تشقلب فيها مسرحية أنوي مفاهيم الخير والشرّ. سوء الفهم هذا تكرّر سابقاً خلال عرض المسرحية أيام الحكم النازي في ألمانيا، فحظيت بتصفيق المعارضة والنازيين على السواء.
جورج هو أحد أفراد الجوقة الذي أبقى عليها أنوي من المسرح القديم ومن سوفوكليس. إنّه «في الهامش» يقدم ويروي. هو «رسول الموت وصوت المنطق» في آن واحد. يتكلم مع الجمهور، و«هو الوحيد الذي قبل الطابع الخيالي لدوره وكسر الوهم». المشاهد يراه، لكن الممثل لا يفعل. هو الوحيد الذي تمكّن من كسر «الجدار الرابع»، الجدار الخيالي الذي يبنيه الممثلون خلال العرض من أجل تعزيز الوهم. إنه الجدار الذي يحمي الشخصيات. بالنسبة إلى البعض، هو علاج لرهبة المسرح، وللبعض الآخر إنه حدود الواقع.
يخترق سورج شالاندون الجدران والحدود الداخلية التي سادت في الثمانينيات. يواجه الموت على جسر «الرينغ» وعند خطوط التماس كلها، لكنه يبقى خارج لبنان مثل الجوقة بالنسبة إلى الممثلين، فلا يحكم على أحد ويدفعنا إلى حبّ كلّ الشخصيات. قبل أن يترك الرواية، يحرص على بناء جدار خيالي للتخلّص من صنوه الذي يجعل حياته (الهادئة والطبيعية في فرنسا) لا تُحتمل، فيتركه على عتبة الماضي حيث يخضع للفعل التطهيري للذاكرة.

لقاء مع سورج شالاندون: 15:00 بعد ظهر 2 ت2 (نوفمبر) ــــ أغورا