أين الأمن العام الآن. هذا هو السؤال. أين هو الجهاز النشيط، الذي صادر ببطولة، قبل بضعة أيام، مجموعة ملابس، لأنه رأى في ذلك إهانة إلى فئة دينيّة، وصفقت له الجماعات الحريصة على أن يكون لبنان متأخراً عن الكوكب. فاتته بقيّة الحفلة، يبدو ذلك. الحفلة نفسها، حفلة الهالوين البائسة. أين القضاء الذي ترك مجموعة من التافهين يهينون آلاف العاملات اللواتي يزينن هذه البلاد بتعبهن وشغفهن بالحياة.
أين الجميع الذي يسكت عن المهزلة التي انتشرت من وسط المدينة، المشوهة أصلاً، إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وكالعادة، وجدت فئة واسعة من المصفقين. تصفيق يبعث على الغثيان. والحال أن هذا التصرف لا يفضح تقاعس هذا الأمن العام وحده، فالذي يعرف كيف يوضع العمال وتوضع العاملات في سجنه، يفهم أن الأزمة ليست أزمة جهاز أمني لم يؤد واجباته ويحقق مع الفاعلين حتى هذه اللحظة، بل إنها في الأساس، أزمة مجتمع متأخر كثيراً عن العالم. الأمن العام، لم يتحرك، لأنه لا يشعر بوجود شيء يجبره على التحرك أصلاً. هل يخفى هذا على أحد؟ هل سمع احد بموقوف واحد أو معاقب واحد بتهمة العنصريّة، رغم عشرات الحالات العنصريّة التي يفضحها الإعلام؟ لن تتدخل المؤسسة الأمنيّة في أي بلد من العالم، بلد يعرف معنى الإنسان، من أجل سحب رداء، لكنها على الأقل، تعرف معنى كرامة الإنسان. لقد منعت مثل هذه التصرفات القميئة في ملاعب كرة القدم، وشجبت في الحانات، وفي كل مكان، لكنها تبقى متاحة هنا، في جمهوريّة «الداون تاون»، وفي بلاد العنصريين إلى حد لا يحتمل. تقوم القيامة من أجل رداء وحسب. يبدو هذا محبطاً، قبل أن يحضر سؤال جدي آخر إلى هذا السجال المضني: ألا يشاهد الأمن العام السينما؟ في المشاهد التي يخطف منها لحظات هامة أحياناً، ويتلصلص عليها بذهنية الرقيب ــ حارس الموروث، ألا يشاهد كيف صار العالم أكثر انفتاحاً مع الحريّات الشخصيّة وأولويتها على حريّة الجماعة؟ لقد أعاد الرداء إلى مكانه، وترك العنصريّون بلا حساب. هذا رائع. يعطيكم العافية. حسناً، يبدو هذا بمنتهى القسوة مع «الأمن العام». ولكن، لا بد من وجود أحد يحاسب هؤلاء، الذين أهانوا العاملات، وأهانوا جميع اللبنانيين بفعلتهم هذه، حتى لو لم يشعر أحد بذلك. يجب أن يتحرك أحد ما. الامن العام، القضاء، أي شيء يمت إلى هيكل الدولة العظمي بصلة، يجب أن يبدأ تصحيح الأخطاء من مكان ما. يجب أن يعرف اللبنانيّون أن حيوات الآخرين، لا يمكن أن تكون عرضة للتهريج في حفلة، فيبدأ الأمر هناك، وينتهي ببعض المزاح على «الفايسبوك». يجب أن يعاقب الفاعلون، أن تكون هناك آليّة واضحة لإفهام اللبنانيين، أن العنصريّة ليست ترفاً، بل إن الأذى الذي تسببه يفوق غباء السكوت عنها، خاصة إذا كان السكوت يبدو أبدياً، على الطريقة اللبنانيّة.
والحديث عن طريقة لبنانيّة ليس اضافة مجانيّة. فلو ان للعنصريّة فماً بغيضاً يشبه ما هي عليه، لنطقت سأماً ضدّ استنفادها من اللبنانيين. تتشارك العاملات عنصريّة جزء من اللبنانيين مع الكثيرين. والحديث هنا، عن السوريين والفلسطينيين والأكراد، وكل ما هو ليس لبنانياً. وهذا مقرون بالأحداث. على الأرجح، نسي الجميع تجاوزات الجيش في برج حمود مع «الأجانب». انتهى الأمر بصيغة «الأمر لك» النقيضة لكرامة الفرد وحريّته. وعلى الأرجح، لن يثير تحرش رجل أمن قرب مجلس النواب بعاملة آسيوية حفيظة أحد من العابرين، الذين يتعاملون مع الأمر بوصفه أمراً واقعاً. وهذا حدث فعلاً قبل أسبوع مثلاً، وضحك المارة على العاملة، بينما كان يفترض بهم الرغبة بالاختفاء. والقصد هنا، أن رجل الامن، الذي يمثل الدولة في لحظة الخطأ، هو الذي يبادر إلى الخطأ. وتنسحب تجاوزاته على الدولة الساكتة بدورها، استجابة لللنسق الذي رُكبت على أساسه أصلاً، وهو من مكونات الشعب.
في أية حال، الصورة ليست بحاجة إلى شرح، وعرضها قد يسهم في رواجها. نتحدث عن بيئة لا تتعب من اختراع الكراهية والعنصريّة. نتحدث عن ثلاثة تافهين، صبغوا وجوههم بلون أسود قاتم، ولبسوا ثياب العمل الرقيقة، وعنونوا الصورة «التقوا بالكوماريز»، في غرض السخريّة من العاملات. كأنهم يعرفون أن أحداً لن يسألهم. أرسلوا ابتسامات دنيئة إلى الكاميرا، غير آبهين بالتمييز، الذي لو لم يكن بالشكل الذي وقع فيه، وفي بلاد أخرى غير لبنان الذي وصلت نسبة المنتحرات فيه إلى عاملة كل أسبوع، لكان السجال أقل حدة. بيد أن هذه الصورة، وفي وسط بيروت تحديداً، تعني أن شيئاً لم يتغيّر، وأن اللبنانيين لم يعرفوا معنى العنصريّة بعد. والأمر ليس شخصياً، لكن من يتباهى بالعنصريّة يستحق عقاباً قانونياً قاسياً. عقاباً يكون على قياس الآلام التي تسببها أمراضه للآخرين. وبما أن العقاب القانوني مختف تماماً، وكأن العنصريّة باتت عرفاً لبنانياً مقبولاً، لا يستدعي سوى شجب هنا واستنكار هناك، فمن الجائز القول، وبلغة لبنانيّة أيضاً، إن كرامة العاملات اللواتي تعرضن للإساءة، بلا شك، تساوي أضعاف المرات، تلك الوجوه الدميمة، التي صبغت على ذلك النحو الكريه.


يمكنكم متابعة أحمد محسن عبر تويتر | ahmad_mohsen_@