إنها الثامنة صباحاً. القوى الأمنية تمنع عامر محفوظ من الدخول إلى قصر العدل في بيروت. ما السبب؟ سأل «أبو عضل» الدركيين مستغرباً، فأجابوه: «لدينا لائحة بالأسماء المسموح لها بالدخول، وأنت اسمك ليس من ضمنها، وبالتالي عليك المغادرة». الصيّاد البيروتي، ابن الدالية الثلاثيني، أبى أن يغادر. عاد وقال لهم «لا أريد حضور جلسة القاضية زلفا الحسن، اليوم ليس موعد جلستي، وهناك أصدقاء آخرون سيأتون بعد قليل ليحضروا الجلسة، أما أنا فأريد الدخول إلى القلم لأعرف أين أصبحت قضيتي».
فجأة، زاد منسوب الغضب في عيون الدركيين، بدوا مربكين، فرفعوا صوتهم مهددين إياه بالمغادرة، وإلا...
من سوء حظ رجال الأمن هؤلاء، ومن ورائهم القاضية التي أعطتهم الأمر، أن «الأخبار» كانت حاضرة هناك. نحن أمام سابقة غير مألوفة إطلاقاً في عدلية بيروت، إذ يُمنع مواطن من دخول ما يسمونه قصراً للعدل، بلا أي مبرر!
من أي شيء تخاف القاضية؟ وبأي حق، بل بحسب نص أي مادة قانونية تعمم على رجال الأمن ما عممت؟ كل قوانين لبنان، الجزائية منها والمدنية، تخلو من أي نص يبيح لها هذا. لحظات ويأتي حسن نبهة، الصياد الاخر ابن الدالية ايضا، ومعه نحو عشرة أشخاص، تم استدعاؤهم لحضور الجلسة المخصصة لهم. وقفوا، مع صديقهم محفوظ، عند مدخل العدلية بانتظار إذن الدخول. هؤلاء مسجلة اسماؤهم، والجلسة جلستهم، وبالتالي لا حجة لرجال الأمن الآن لمنعهم. هؤلاء هم صيّادو الدالية في منطقة الروشة، المدّعى عليهم من شركات عقارية تملكها عائلة رفيق الحريري، في دعوى طردهم من مينائهم ومن الأرض التي يعملون عليها في الصيد. تلك الأرض التي ولد أكثرهم فيها وعاش عليها لعقود خلت. حجّة شركات الحريري العقارية انها اولى بالاستيلاء على الاملاك العامّة المواجهة لعقارات خاصّة اشتراها الوالد، هي في الواقع حيز عام يكتنز ذاكرة البيروتيين العميقة.
همّ حسن نبهة بالدخول، واسمه مسجّل، فما كان من الموظف القضائي (المباشر) المرابط على مدخل «القصر» إلا غمز رجال الأمن، لمنعه من الدخول. صرخ نبهة بأعلى صوته، مهدداً، مخاطباً الدركيين ومعهم المباشر: «تريدون منعي من الدخول لحضور جلستي، وبهذا تُسجل القاضية أني تغيّبت، ثم تحيل القضية للحكم الغيابي! هذا ما تفعلونه! لا، كبيرة على أكبر راس فيكم، باقي هون ورح فوت بالقوة وما في قوة بالعالم رح تمنعني». وصل صوت الشاب بعيداً، فأطل بعض الموظفين من شرفاتهم، قبل أن يعود رجال الامن ويسمحوا له وللباقين بالدخول. حصل هذا، وهناك عشرات الشهود، وكله برسم وزير العدل شكيب قرطباوي والقاضي أكرم بعاصيري ومن معه في هيئة التفتيش القضائي. هل هذا هو قضاؤكم الذي يمنع العدالة عن الناس!

«ثورة» أمام المحكمة

حسناً، دخل الصيّادون وانتظروا حضور القاضية أمام قاعة المحكمة في الطبقة الثانية من العدلية. تأخرت، والسبب هو دخول أقارب للمدّعى عليهم، ليحضروا الجلسة. الجلسة علنية ومن حق كل مواطن أن يحضرها. صعد رجال الأمن إلى الصيادين المنتظرين، وراحوا يطلبون من أكثرهم المغادرة، فعلت الأصوات من الطرفين. عمر محفوظ، والد عامر، على كبر سنه، صرخ قائلاً: «الآن فهمنا، محامي بيت الحريري عثمان عرقجي أخبرنا سابقاً أنه هو وجماعته قادرون على شراء كل شيء، المحكمة وكل الموظفين، قالها لي علناً عندما كان يهددني قبل أيام. الظاهر أنه كان محقاً، يا عيب الشوم عليكم». دوّى صوته في قاعة «الخطى الضائعة». فهم الصيّادون أنهم يواجهون قوّة عاتية، قوة المال ونفوذه في الأمن والقضاء والمؤسسات والإدارات وكل شيء. محفوظ ونبهة ونصولي والعيتاني والعلايلي، أبناء هذه العائلات البيروتية، وقفوا جميعاً وراحوا يصرخون وشمّروا عن سواعدهم. احتشد جمع من المحامين والناس، لمعرفة ما الذي يحصل، فبدا المشهد كأنه ثورة قد ضربت قصر العدل. كثيرون هناك قالوا هذا لم يحصل هنا منذ سنوات. رجال الأمن ترددوا، فهموا أن الصيادين، الذي أتوا لممارسة أبسط حق، وهو التقاضي وحضور الجلسات العلنية، حاضرون للذهاب بعيداً.

هذا القانون يا «ريّسة»

مبدأ علانية الجلسات ليس منّة من القاضي على المواطنين. هذا مبدأ مُكرّس يعرفه كل حقوقي في العالم، والغاية منه الشفافية والوضوح وعدم الظلم، وسبب ليفهم الناس آليات عمل القضاء بعيداً عن «ألعاب ما تحت الطاولة». القاضية زلفا الحسن، أمس، لم تُعلن أن الجلسة سرية، ولم يكن هناك أي مسوّغ للسرية قانوناً، ولكنها مع ذلك رفضت إدخال أقارب المدّعى عليهم إليها. كذلك منعت «الأخبار» تحديداً من الدخول، على وقع تهديد رجال الأمن، الذين أتموا مهمة منع الصحافة من عملها بالعنف، وعلى أكمل وجه. ربما نسيت القاضية، أو تناست، أن المادة 178 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنص على أنه: «تجري المحاكمة بصورة علنية وشفاهية، وإلا لكانت باطلة، ما لم يقرر القاضي المنفرد إجراءها سراً بداعي المحافظة على النظام العام أو الأخلاق العامة». الصيادون كانوا هادئين عندما حضروا، وكانوا مثالاً للأخلاق، وما جاؤوا إلى العدلية إلا ليلتزموا النظام العام، فبأي حجّة تمنعهم من دخول الجلسة؟ هل صحيح ما ردده الصيّادون أمس في القاعة: «هناك ضغوط سياسية على القضاء من عائلة الحريري؟». على القضاء أن يجيب، التفتيش القضائي تحديداً، خاصة مع نص مادة قانونية يتحدث عن «بطلان الجلسة» في حال معارضة مبدأ العلانية. نص المادة 484 من قانون أصول المحاكمات المدنية، أيضاً، ينص على وجوب علانية الجلسة. اللافت أن القاضية الحسن مشهورة في العدلية بسيرتها الحسنة، ولهذا كان بعض المحامين أمس يستغربون ما يحصل، ولكن عندما كانوا يستمعون للصياديين تجدهم يهزّون برؤوسهم، قائلين: «إنها السياسة إذاً، تقولون عائلة الحريري! تريدون مقارعة من بلعوا البلد وتظنون أنهم لن يبلعوكم؟». قالها محام، سيكون حاضراً للإدلاء بشهادته هذه، وبما رأى، إن فتحت هيئة التفتيش تحقيقاً. وبعيداً عن القوانين المحلية، لبنان وقع قديماً على معاهدات دولية، فبات ملزماً تطبيقها. مبدأ علانية المحاكمات منصوص عليه في المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي المادة 14 من العهد الدولي الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية.

الصيّادون: يا وحدنا

ما حصل في عدلية بيروت، أمس، كان أكثر من مجرد مخالفة. كان أقرب إلى نمط في التعامل مع الفقراء. كان المشهد يتحدث، بوضوح تام، كيف ينتصر الأغنياء، أصحاب رؤوس الأموال «الحامية»، داخل القضاء وخارجه، على مجموعة من الفقراء ليس بين أيديهم سوى حقهم وصوتهم. وحيدين وقفوا. جاؤوا لمواجهة «عائلة الحريري» قضائياً. وحيدين بلا أي ناشط مدني. بلا جمعيات من تلك التي صدّع أصحابها رؤوس الناس بالحرص على الحقوق المدنية والكرامة الانسانية. القضية عن أملاك عامة تُنهب، وذاكرة تاريخية تُسرق في وضح النهار، وبشهادة وزير الأشغال العامة غازي العريضي، ومع هذا يقف الصيّادون وحدهم. باستثناء جمعية «مشاع» لم يتحدث احد، على مدى أسابيع، عن الموضوع أصلاً. ثمة من تساءل أمس، تُرى هل تتأذى عين القضاة من رؤية هؤلاء الصيادين، بثيابهم البسيطة وهيئتهم المتواضعة؟ هل يتقززون ربما من رائحة الأسماك؟ ما الحكاية؟ من لديه في القضاء اليوم ما يبرر فليبرر، فليوضح. والا فان قضية «الدالية» هي بوضوح قضية تمييز طبقي في القضاء... ضد الفقراء.

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad