حمّي فُرنِك يا امّ حسين

تيمّناً بالنكتة الشهيرة التي نزل فيها الحمامصة ليتفرجوا على منع التجول، سرت نكتة مشابهة على الفايسبوك، مفادها «رايحين ع طرابلس حتى نتفرج ع الخطة الأمنية». فمنذ إعلان هذه الخطة، والناس يحاولون أن يتحسسوا نتائجها، بأن شيئاً ما تغيّر، على الأقل، في يومياتهم، لكن... عبث، ما هي إلا أيام، حتى حصل المنتظر، فاندلعت الجولة الثامنة عشرة وكانت أفظع مما قبلها. فالأوضاع حين تتدهور، لا توقف. ستخترع قاعاً بعد قاع، تماماً كما تفعل الحروب الأهلية. وما تفخيخ المباني في جبل محسن وما قام به «أولياء الدم» من إصابة كل علوي يقع تحت أيديهم بإعاقة في قدميه إلا درجة جديدة من التدهور الأخلاقي والوطني يستكشفها أمامنا وتقريباً عبر البث المباشر أبناء طرابلس.

تنظر الى وجوه الطرابلسيين مستقرئاً الأمان، فلا تجد إلا القلق والعيون التعبة والعبوس والخوف من الغد.
على ساحة التل، التي أصبحت مذياعاً لآخر ما توصل إليه مطربو هذه الأيام، كان أحدهم يتغنى بالأغنية التالية كلماتها «حمّي فرنك يا امّ حسين واعمليلي منقوشة». أغنية ذكورية، مترعة بتلميحات جنسية بالكاد تخفى على المستمعين المبتسمين من المارة. أغنية تشبه أرضيات كاراجات النقل المشترك التي يختلط على سطحها المتسخ بزيت السيارات الوحل وأعقاب السجائر المسحوقة وشيء من بصاق «الشوفيرية» الممسوح بالأحذية. أغنية تشبه مستوى السلطة السياسية، وخطابها السافل والمذهبي. تشبه كل شيء في البلد اليوم: النقل المشترك المتدهور والمتحول الى مجرد فانات تخلو من أية أصول للسلامة أو حتى احترام الركاب. تشبه الأغنية حال الفان، الذي «نجّره» ميكانيكي ما في عكار يضع إعلاناً على كل قطعة كمن يحفظ حقوق «التأليف». تشبه مستوى «التوك شو» التلفزيوني المحلي (على الأقل) وصانعي أخباره، تصريحات «ضيوفه» المعنيين بحال البلد، وقيم الشارع التي طفت من أسفل المجتمع على وجه مياهه المستنقعة. تشبه «الشباب فشوا خلقن» التي صرح بها وزير الداخلية بعد عركة ما، قتل فيها من قتل وجرح فيها من جرح وتهدمت بيوت على رؤوس أهاليها، تشبه «لن نلبس التنانير بعد اليوم وسندافع عن كرامة مدينتنا»، يصرح بها مسؤول أمني رفيع سابقاً، كاشفاً عن وجه «أزعر زاروب» بعد حكمه لجهاز أمني، نما تحت مظلة صراع المذاهب الذي يخفي وجوه رعاته الإقليميين، جهاز نما كالخلية السرطانية ليصبح دولة داخل دولة... غير قائمة أصلاً.
الخطة الأمنية في مرحلتها الثانية ولا أمان أو حتى مونة على الأمان.
تدخل المدينة من بوابتها الجنوبية، متوقعاً أن يكون هناك على الأقل نزع للافتات والصور المتحاربة، وإزالة للشعارات الكيدية والفتنوية وصور إقطاعيي السياسة التي تحتل منذ عقود شرفات الفقراء مقابل خمسين ألفاً شهرياً... لكن لا شيء.
لا تزال ملصقات «هذا الرجل نثق به»، و«أشرف وسام على صدورنا»، «لن نتخلى عن نصرة أهلنا في الشام ولو قتلتمونا»، ترصع جدران الشارع... الى ما هنالك من مفردات مستمدة من قاموس «العزم والسعادة» المستلهم من اسمي والدي رئيس حكومة تصريف الأعمال سعاد وعزمي.
وفي الوقت الذي انتظرنا فيه إشارات ما الى تراجع الزعران أمام هيبة الجيش، إذا بنا نجد المشهد على جدران العاصمة الثانية متفاقماً، كما لو أنه تحدٍّ من قبل قوى الأمر الواقع لـ«صورة» الدولة وخطتها الأمنية و«إمرة الجيش». لافت كان الانتشار الزائد لصور «مدير عام التنانير» تملأ الطرقات. تتحدى «التنانير» خطة «أبو ملحم» وحالة طوارئ لا تتجرأ على قول اسمها فتتستّر بـ«إمرة الجيش». والطرابلسيون يبتدعون حلولاً كل يوم للبقاء. يطنّش بعضهم، إن كان بعيداً عن مهوى القذائف والقنص، ومن هو مجبر على العيش في نطاق الفلتان المطلق «هجّ» الى مجدليا وضهر العين وزغرتا، هذا إن كان باستطاعته أن يهجّ. «ما بتروح إلا ع الفقير» يقول لي ابن أبو سمرا... كأني لا أعرف ذلك!
عند مدخل طرابلس، إعلان لماركة سجاد لفّت فيها السجادة على شكل طفاية حريق وكتب فوقها: في طرابلس انطفت الأسعار.
في الحقيقة، إن المدينة بكاملها انطفت. لكن لا أحد يعلن هذا السر الذائع. الى أين سنخرج من هذا الانحطاط؟ كيف؟ الجميع ينتظر السياقات الدولية والإقليمية من أجل بعض الأوكسيجين المحلي. هناك من تنفس للتطور النووي بين إيران وأميركا. بالطبع سينعكس... ولكن «الانعكاس» لم يكن انفراجاً للأسف. بالعكس، كان غضباً وحنقاً وحقداً ممن يستشعر غلبة إقليمية فلا يفشّ خلقه إلا تجرع دم اللبنانيين المتحاربين. لا غالب ولا مغلوب؟ تمشي المعادلة فقط محلياً، أما حين يتوسع النزاع ويجهر الجميع بهويتهم السياسية، فالآية تنعكس.
حتى اللافتة الوحيدة التي بدت لي تصبّ في مساعي التهدئة، سرعان ما بددت آمالي «ابتسم أنت في طرابلس السلام والتقوى، طرابلس العيش المشترك». وبالطبع كُتبت كلمتا السلام والتقوى بلون مختلف، في إشارة إلى اسمي المسجدين اللذين فجرا منذ أسابيع.

طرابلس تتمنى ولا تحصل على ما تريد. زعران الأحياء أصبحوا سادتها. لا أحد يردعهم. متروكون لتطبيق «أفكارهم» عن «كرامة الطائفة» و«حماية عرضنا» على الطرابلسيين.

عند طلعة الرفاعية الشهيرة التي توصلك الى منطقة أبي سمراء، وعند نقطة مخرج سوق الخضار المعروفة بزحمة سيارات تقليدية بسبب استقلال الناس للسرفيسات من هذه النقطة الضيقة، كانت الطريق ولدهشتي فارغة. لا تفهم خلوّ الطريق الذي تحسب له ربع ساعة إضافية على المشوار. أيمكن أن يكون بسبب إجراءات ما للخطة الأمنية؟ أو بسبب حال الأمن السائب الذي لا تفلح الخطة الأمنية بتطويقه فعلاً؟ أسأل السائق الكهل، مع أني أعلم أن «بقية» طرابلس تحاول العيش متجاهلة محور باب التبانة جبل محسن. فيقول وهو ينفض بإبهامه عقب سيجارته من شباكه «لا خطة أمنية ولا بلوط... حلّينا مشكلة العجقة أخيراً... أنا حلّيتها. أحسن شي طلع معي إني سلّم الموقف للزعران». كيف؟ وأي موقف؟ ومن هو ليسلّمه؟ قال «هنا يوجد موقف لسرفيسات أبو سمرا. استأجرته من البلدية منذ سنوات وهو يتسع لعشر سيارات فقط. لكن، ومع الفوضى، صارت كل السرفيسات تزاحمنا: هكذا تتلكأ عند مخرج السوق لتحمّل الزبائن من أمامنا. فتحصل زحمة فظيعة وبتصير السيارات متوقفة بأرضها من هنا وحتى ساحة التل (حوالى 2 كلم)». حسناً وماذا فعل؟ «حكيناهم بالمنيح، ما في مجال، حكينا البلدية، بعتت شرطي بلدي، أخذ ينظّم السير ويمنع السرفيسات من التوقف هنا، لكن وبعد فترة صار الموضوع «باب رزق» للشرطي، يعني بيكبسولو بإيدو كم ألف بيطنش... وعادت الزحمة. فكرت، لقيت أحسن شي إني ضمّن الموقف لزعران الحارة، يعني هنّي اللي كانوا يعملوا مشاكل. لما صار الموقف بعهدتهم وباب رزقهم، وحياتك نظّموا السير وصار متل الساعة».
ويتابع ضاحكاً «طرقوا كم قتلة بالأول لكم شوفير... ومشي الحال».
وجد السائق خطته الأمنية. لكن كيف ستفعل طرابلس؟ نلزّمها للزعران؟ لكن... أليست المدينة أصلاً بيدهم؟ ولكن هل هم الزعران الأصليون؟ أم من يشغّلهم من خلف ستار بالكاد يخفي ما خلفه؟
لن تنجح الخطة الأمنية إلا إذا كانت إقليمية. «وسّعوا البيكار» يا شباب، ربما نفلح يوماً ما. بالانتظار، لا تتفاجأوا مهما تدهور الوضع. استمعوا إلى «حمّي فُرنك يا امّ حسين»، ونحن نواصل التراجع الى الخلف، فهي موسيقى تصويرية مناسبة لوضع لن يتوقف حتى ينعم الله علينا بجدار نصطدم به.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

فاطمة ق. فاطمة ق. - 12/9/2013 8:44:05 PM

مؤلم..

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم