يبدو المسار الذي تسلكه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة متوقعاً الى حد بعيد، سواء من ناحية إقرارها بطبيعة توازن القوى القائم، إدراكها لحدود قوتها، تراجع طموحاتها، تقليص مصالحها، امتناعها عن التدخل العسكري المباشر، تركيزها على العمل المتعدد الأطراف، أو انسحابها من ما يمكن من أزمات المنطقة. أغلب القوى الكبرى التي سلكت مسار الأفول اعتمدت سياقاً مشابهاً، وجهدت للتكيف مع التحولات في بنية القوة سواء الإقليمية أو الدولية، من خلال «استراتيجية التقشف والانكماش» التي تتجسد عبر خفض الإنفاق العسكري، إصلاح داخلي، فرز المصالح ضمن أولويات والتركيز على الجوهري منها فقط، مبادرات دبلوماسية نحو الخصوم، والبحث عن تحالفات جديدة وتمتين القديم منها.
لقد ألحق انكفاء القوة الأميركية في الشرق الأوسط ضرراً بالغاً في صدقية واشنطن مع حلفائها، قلص دائرة المصالح المتبادلة في ما بينهم، وفرض على الحلفاء تحمل أعباء إدارة أمنهم القومي، أي أنّ «شقوق» التفسخ في الحلف الأميركي تبدو واضحة للعيان. تتمظهر معالم هذا الوهن في ثنائية السعودية ــ إسرائيل/ تركيا ــ قطر، سواء في ملفات مصر، سوريا، العراق، والتسوية النووية الإيرانية. وضمور الصدقية يثير حساسيات بالغة عند القوى الهابطة بالتحديد، لأنه يُعريها من الحلفاء ويشجع «المفترسين» المتربصين بها في لحظة انكشافها. هذه الحساسية انعكست على المواقف الأميركية الداعية لتوجيه ضربة لسوريا، على خلفية مزاعم استخدام النظام للسلاح الكيميائي، من باب حفظ صدقية واشنطن بعد تجاوز النظام «للخط الأحمر»، وهو ما دعا أحد الباحثين الأميركيين للقول: ذهابنا نحو الضربة العسكرية في سوريا من باب حفظ الصدقية، رغم مخاطرها الكارثية، يشبه حال من يقوم بالانتحار لإثبات أنه لم يكن ميتاً.
تظهر أزمة الصدقية بأبرز تجلياتها في التوتر الأميركي ــ السعودي، فمِن بين حلفاء واشنطن في المنطقة تبدو السعودية الأسوأ حالاً: جيش ضعيف، اقتصاد ريعي مشوه، علاقة متوترة بإطراد بين المجتمع والدولة، نموذج منفر (وفي عصر المعلومات والإنترنت هذا قصور لا يمكن التغاضي عنه أبداً)، شرعية متناقصة، عصبية متراخية، اهتزاز سلطوي، بالتوازي مع عدائية مفرطة وتحالفات هشة في الإقليم. قرأ السعوديون تحولات القوة خلال السنوات الماضية بشكل مقلق لا سيما ما جرى في العراق، وبدأ التوجس السعودي يظهر من الافتراق المتزايد مع الأميركيين بشأن المصالح الإقليمية، أهمية الشرق الأوسط، الأولويات، وآليات الإدارة الجديدة للمنطقة. من الطبيعي أن يكون السعودي أكثر قلقاً تجاه التوازن الاقليمي المستجد لأنه «الدشمة الأميركية» الأولى على خط النار، فيما الخيارات الأميركية أكثر تنوعاً وهواجسها أقل حدةً.
لذلك كله، يخوض السعوديون المواجهة السورية على قاعدة «لعبة صفرية»، إما كل شيء أو لا شيء، فكسب سوريا كان يمكن أن يعوض خسارة العراق، بالنسبة لهم. إذاً، السعودية حافزها الخوف وليس الطموح، والخوف الهستيري يخلُق المجانين. بالمقابل رضخ الأميركي للخط الأحمر الممهور بجملة «لسوريا حلفاء لن يسمحوا لها بأن تسقط»، ووجد البديل في «نزع مخالب» النظام السوري أي «قوته الإستراتيجية» على مثال السلاح الكيميائي، بعدما أصابت الحرب مقتلاً في المجتمع والجيش والنظام السوري بحيث أصبحت مساهمة سوريا في القوة النسبية لمحور المقاومة متدنية، ولو على المدى المنظور.
ما الحل بالنسبة للسعودية؟ الحل «العقلاني» يكون بداية بتبني مقاربة أكثر براغماتية مع الإيرانيين، مقاربة تحكمها جملة مصالح قابلة للتسوية والتقاسم، التراجع خطوات للخلف لاستكشاف مساحة ممكنة لتبريد العلاقات، يمكن للسعوديين التعلم كثيراً من الأتراك والقطريين. لكن عقبات عدة تحول دون هذا التحول، أولاً ذهنية القرار السعودي ليست «عقلانية» ومحكومة للغرائز والانفعالات، وثانياً لأنّ الصدام مع إيران يستخدم كأداة تعبئة داخلية بديلة عن الإصلاح، وثالثاً كأداة توتير إقليمية لتدعيم جدار الكراهية عند شاطئ الخليج، ورابعاً كوسيلة إغراء للدعم الغربي. لذلك يُفضّل السعوديون حتى اللحظة بدائل أخرى: رفع مستوى المواجهة بما قد يؤدي إلى ردود فعل تطيح التبريد الحالي بين إيران والغرب، تمتين التحالفات الإقليمية للمملكة مع مصر واليمن ودول مجلس التعاون، فتح مسار متقدم للتنسيق مع الإسرائيليين، تأجيج التوترات وإضعاف الحكومات المركزية في نقاط الاشتباك في العراق ولبنان، محاولة إغراء الفرنسيين من خلال صفقات التسلح، للتأثير بشكل أحادي وعبر الاتحاد الأوروبي لإشغال جزء من الفراغ الذي خلَّفه الأميركيون في الشرق الأوسط، والاستمرار في عرقلة التسوية السورية وإطالة أمد الحرب فيها. هذا كله سيعزز المراهنة على عمق العداء الأميركي ــ الإيراني الذي قد يؤدي إلى انتكاسة في التبريد القائم، باعتباه أمراً ظرفياً.
الأرجح أنه في النهاية سيلتقي السعوديون والأميركيون عند تقاطع ما، فالمصالح المشتركة بين النظام السعودي والإدارة الأميركية متداخلة ومعقدة ومتبادلة. ستبقى السعودية من مرتكزات الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وإن تراجعت أهميتها، وفي المقابل تبقى واشنطن ضماناً أمنياً جوهرياً للنظام السعودي الذي يفتقد لبدائل أخرى بهذا المستوى. المحدد الأساسي في طبيعة «التكيف» السعودي مع كل هذه التحولات، هو التغيير المرتقب في رأس سلطة القرار السعودي وما سيفرزه من توزيع قوى جديد داخل الأسرة الحاكمة، وهنا أيضاً لواشنطن أوراق كثيرة.
تبدو الولايات المتحدة كطائرة كبيرة في حالة هبوط اضطراري، والحل يكمن بتخفيف السرعة لضمان «هبوط رشيق» بدل السقوط الحاد. وبالتوازي ليس هناك من مصلحة للقوى الدولية الكبرى المنافِسة بتدهور حاد لواشنطن خوفاً من فراغ مفاجئ في النظام الدولي وثانياً بسبب ما يعرف بـ«الاعتماد المتبادل المعقد» لا سيما اقتصادياً بين هذه القوى. شرق أوسطياً، للولايات المتحدة مصلحة بمنع فوضى شاملة، فكان لا بد من الإقرار للروسي بدور فاعل ووازن في الإقليم خاصة من ناحية قدرته على «عقلنة» محور المقاومة أو العمل كقناة اتصال معه. ومن مستلزمات تجهيز «المدرج الشرق أوسطي» لأفول هادئ «للقوة الأميركية»، الإقرار بنفوذ ودور ومصالح إيران باعتبارها قوة إقليمية يجب التعامل معها، ولو مؤقتاً بالحد الأدنى. في المقابل تلقف الإيرانيون اللحظة، تثبيت وضعيتي القوة الإقليمية والقوة النووية في مقابل تقديمهم تنازلات أوجدوها بالأصل، في أغلبها، كثمن لتسوية مستقبلية. بالمحصلة، الأميركيون يتقنون الخسارة أيضاً.
* باحث ومحلل سياسي