تولد الحروب بقرار، ويصدر القرار عن مصالح، وعندها لا يهم كم يسقط من الأبرياء، ولا أين يدفن الأموات، ولا كيف يعيش الأحياء، فالمهم أن تستمر الحروب، والمهم أن يجد الإعلام صورة «طازجة» يمكن تقديمها على موائد الساسة، التي يقتسمون عليها الحدود بسكين بارد. المهم أن تستمر الحروب، حتى لو مات الآلاف أو حتى الملايين، ﻷن الذين يصدرون قرار الحرب لا يموتون، إلا نادراً... تبدو هذه المقدمة ضرورية عندما نسأل أنفسنا: ماذا حدث؟

في الظروف الطبيعية، يمكن صحافي أن يقرأ الصورة بوضوح، ويتحدث عن ظروف موضوعية أدت إلى الحرب، لكن عند النظر إلى الحالة السورية، يجد الصحافي نفسه عاجزاً عن الفهم. فالآلة الإعلامية الضخمة التي يعمل داخلها، وتحوله مع الوقت إلى ترس صغير فيها، لا تسمح ﻷحد بأن يفهم شيئاً، فالتاريخ يشهد ﻷول مرة حرباً قرر الإعلام أن يصنعها، فقال لها كوني فكانت بأمر أصحاب المصالح.
وضعت الجغرافيا والتاريخ سوريا في واحدة من أكثر مناطق العالم تعقيداً، فكان عليها إما أن تصبح جزءاً من التحالف الأميركي المنفرد بحكم العالم منذ 23 عاماً، والذي يضمن وحده أمن إسرائيل، ويحافظ عليه، أو أن تدفع ثمن البقاء خارج التحالف، وتدفع الثمن دماراً بلا حدود، من دول تدفع المليارات لتمويل الحرب ﻹسقاط سوريا، وهي المهمة التي فشلت إسرائيل فيها على مدار ما يقرب من 40 عاماً.
نظرياً، تبدو إسرائيل العدو الأول والوحيد للدولة السورية، لكن عملياً الوضع أكثر تعقيداً، رغم أنّ العداء الإسرائيلي ــ السوري وحده كافياً ﻷن تنال دمشق عداء نصف العالم الواقع في الأسر الأميركي، حتى من جانب أشقائها العرب الذين يزعمون علناً أنهم لن يسالموا إسرائيل، أو يطبّعوا معها، بينما يكون التنسيق الاستخباري بين الجانبين على أعلى مستوى سراً، خاصة عندما تلتقي المصالح، وهي ضرب المحور المقاوم ﻹسرائيل، وهي الطرف الوحيد الرابح من الأوضاع المشتعلة داخل الأراضي
السورية.
وإذا كانت الصورة واضحة بالنسبة إلى إسرائيل، فماذا عن السعودية؟
لا تخفي الرياض علناً أو سراً عداءها للنظام الحاكم في سوريا، ما يرجعه البعض إلى اتهامات سعودية لنظام الأسد بالضلوع في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، رجل المملكة المدلل، وحليفها الأقرب، وذراعها السياسية في صراع القوى الدولية في لبنان، لكن الوضع يتجاوز كثيراً مجرد رغبة ثأرية كما يروّج البعض، ﻷنّ «المصالح الدولية لا تعرف مفاهيم الثأر».
يتجاهل مفسّرو الموقف العدائي للسعودية تجاه النظام السوري باعتباره قائماً على الثأر لمقتل الحريري حقيقة مهمة، وهي أن دمشق نفسها كانت أكبر الخاسرين من اغتياله، الذي أنهى قرابة ربع قرن من الوجود العسكري لها داخل الأراضي اللبنانية، بما كان يمنحها في السابق مميزات استراتيجية كبيرة في مواجهة العدو الإسرائيلي المحتل للأراضي السورية واللبنانية إلى
الآن.
يبدو الحضور السعودي القوي في المعادلة السورية أمراً شديد التعقيد، خاصة أنه يأتي بالتزامن مع مساع سعودية لفرض نفسها كقوة إقليمية عظمى في المنطقة، لا يضاهيها سوى إيران، العدو المذهبي، والحليف الأقرب والأقوى للنظام السوري.
وبدا الطموح الإقليمي السعودي شديد الوضوح في واقعتين مهمتين، كشفتا عن هذه التطلعات التوسعية، الأولى في التدخل العسكري للرياض في شمال اليمن ضد الحوثيين، الحلفاء الأقرب لإيران، وهو تدخل لم يقف عند حدّ دعم القوات الحكومية الحليفة، بقيادة الرئيس اليمني وقتها علي عبدالله صالح، بل وصل إلى حد استخدامها مقاتلات أميركية الصنع لدك النقاط العسكرية للقوات غير النظامية للحوثيين.
أما الواقعة الثانية فهي الخاصة بالتدخل العسكري لدعم النظام البحريني، تحت اسم «قوات درع الجزيرة»، التي دخلت لتثبيت حكم ملك البحرين في مواجهة غضب المعارضة الشيعية. ويظهر في هذه المرة أيضاً المحرك المذهبي للسعودية التي تخشى، وسط موجة ما يسمى الربيع العربي، وصول العدوى إلى المنطقة الشرقية فيها ذات الأغلبية الشيعية، واﻷغنى بالنفط، وهي منطقة تعاني من اضطهاد سياسي واقتصادي واجتماعي خطير، لكن مسكوت عنه دولياً، خوفاً من محاولة وقوع محاولة انفصالية فيها، ما يلقيها في الأحضان الإيرانية على الجانب الآخر من الخليج.
وما بين حسابات السعودية الشديدة التعقيد ومخاوف من نفوذ إيراني يمتد إلى المنطقة اﻷغنى بالنفط في العالم، كان على سوريا أن تدفع الثمن، ثمن اختيارها أن تظلّ بعيدة عن دائرة النفوذ الأميركي، الداعم للعدو الإسرائيلي، وهو اختيار يبدو منطقياً بكل الحسابات العقلية، التي تؤكد استحالة أن تدخل دمشق تحت الجناح الأميركي مع استمراره في تظليل الكيان الإسرائيلي الغاصب والمحتل للأراضي السورية، إضافة إلى توفير الحماية في الوقت نفسه لإمبراطوريات الخليج النفطية، مستفيداً من تأجيج الفتن المذهبية بين السنّة والشيعة، ليظل الوجود العسكري والسياسي والاقتصادي اﻷميركي مستمراً في الشرق الأوسط.
ببساطة، وضعت الحسابات والمصالح المملكة السعودية في خنـدق واحد مع كل من الأميركيين والأتراك والإسرائيليين، في مواجهة سوريا، وهي حسابات ومصالح جاءت في وقت تبزغ فيه أحلام المملكـة في التحول إلى قوة إقليمية عظمى، ليس بقوة الاقتصاد وحده، كما كانت على مرّ السنوات الماضية، لكن أيضاً بالقوة العسكرية، وفي سبيل ذلك لا يصبح التحالف بين أمراء النفط السعوديين وتجار الحروب الأميركيين والإسرائيليين أمراً مستبعداً، حتى لو وصل إلى حد عقد لقاءات سرية بين رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الأمير بندر بن سلطان، ورئيس جهاز الموساد الإسرائيلي تامير باردو، وعدد آخر من كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، في مدينة جنيف السويسرية، نهاية شهر نوفمبر الماضي، بحسب مصادر إعلامية أفادت بأن اللقاء شهد اتفاق الجانبين على وجوب التصدي للبرنامج النووي الإيراني، ومراقبة العناصر الجهادية الناشطة في سوريا.
الآن، لا يمكن أن نتجاهل حقائق عدة، عند أيّ محاولة لفهم المشهد السوري بكل ما فيه من تعقيدات إقليمية ودولية، أبرزها التورط السعودي ــ الإسرائيلي فيه، بينها أنّ دمشق التي تم اتهامها باغتيال الحريري ــ حليف الرياض ــ هي الخاسر من العملية بخروجها نهائياً من لبنان، بما أدى إلى تقليم أظافرها في مواجهة إسرائيل، قبل أن تشتعل الأوضاع السورية داخلياً، لتؤدي إلى الخطوة الثانية الأكثر أهمية بالنسبة إلى العدو الإسرائيلي، وهي نزع الأسلحة الكيميائية السورية التي كانت الشوكة الأقوى في ظهر العدو، عند أي محاولة محتملة لضرب البرنامج النووي الإيراني. وهو أمر مرشح بقوة للحدوث في اليوم التالي مباشرة لسقوط نظام الأسد، بما يعني بالنسبة إلى كل من إسرائيل والسعودية انتهاء الرعب النووي الإيراني بالنسبة إليهم.
* كاتب مصري