بمرور شهر تلو آخر، مع اقتراب انتخابات رئاسة الجمهورية، لم يعد التساؤل المتداول كيف يؤلف الرئيس تمام سلام حكومته، بل بأي حكومة ينهي الرئيس ميشال سليمان عهده؟ بانقضاء الأسابيع والأشهر أيضاً تنتقل أثقال التأليف المستعصي من كتفَي الرئيس المكلف إلى كتفَي رئيس الجمهورية. بالتأكيد، هما شريكان في توقيع المراسيم. يتقدم سلام دور سليمان؛ لأنه المنوط به اقتراح التشكيلة، ويتساويان في الوزر عندما يوقعان.
مع ذلك، يجبه سليمان المشكلة بوطأة أكبر: للمرة الثانية بعد الرئيس أمين الجميّل، دون سواها في أي من الاستحقاقات الرئاسية المتعاقبة، يوشك رئيس الجمهورية على مغادرة الولاية وبين يديه أزمة حكومية ضاغطة.
كلاهما، في ظل أحكام دستورية متناقضة وصلاحيات متفاوتة، قرر أن يبرح القصر الجمهوري من دون أن يسلم السلطة للحكومة القائمة عندئذ. ذلك ما حمل الجميّل عام 1988 على تعيين حكومة انتقالية ــــ كان الدستور يجيزه له ــــ لئلا يترك السلطة بعد تعذر انتخاب خلف له بين يدي حكومة الرئيس سليم الحص وقد فقدت توازنها وتكافؤ قواها بعد غياب الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل. كانت حكومة مستقيلة معوَّمة بإرادة سورية. كذلك ينسب بإفراط إلى سليمان أنه لن يسلم صلاحياته لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي بانقضاء ولايته من دون التمكن من انتخاب خلف له. لن ينتظر الرئيس الحالي ــــ كسلفه ــــ الربع الساعة الأخير لتأليفها ويلقي بها في وجه الأفرقاء جميعاً، ولا يملك منفرداً مفتاح التأليف في مثل هذا الوقت في أي حال. لكنه يؤكد على نحو قاطع أنه لن يترك البلاد بين أيدي حكومة غير متوازنة، في تقديره، وتجنح إلى فريق دون آخر. لا تبدأ على صورة حكومة الرئيس ميشال عون عام 1988 عندما غادرها الوزراء المسلمون الثلاثة، ولا تنتهي على صورة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2007 بعدما استقال منها الوزراء الشيعة الخمسة.
للمرة الأولى منذ عام 1988 يتكرر المأزق بمواصفات مماثلة، على وفرة أوجه شبه أيضاً مع استحقاق 2007 حينما شغرت الرئاسة من غير أن تشغر آلة إدارة صلاحياتها: حكومة مطعون في شرعيتها في ظل فراغ في رئاسة الجمهورية.
يحمل هذا الهاجس رئيس الجمهورية على التفكير في حكومة ــــ قد تنتقل إليها في ما بعد صلاحياته، تحظى بحد أدنى من مقومات تأييد قوى 8 و14 آذار التي يريد سليمان تمثيلها فيها. الأحاديث الدائرة في محيط رئيس الجمهورية تتحدث عن حكومة غير حزبيين وفق معادلة 9 ـــ 9 ـــ 6:
ـــ ليست حكومة امر واقع يفرضها سليمان على موازين القوى الداخلية، بعدما اعلن مراراً رفضه مواصفاتها مذ اطلق لاول مرة فكرة الحكومة الجامعة. في حال كهذه، من غير ان يتمثل الفريقان المعنيان مباشرة بها، يكفل تأييدها استمرارها في مرحلة انتقالية ويضمن شرعيتها. بيد انها الفرصة الوحيدة لإمرار حكومة تنقذ تكليف سلام وتضع حداً لازدواجية حكومة مستقيلة ورئيس مكلف في آن واحد.
ـــ تستجيب لشرط قوى 14 آذار استبعاد الحزبيين والممثلين المباشرين لأفرقاء النزاع في الطرفين، وتستجيب لشرط قوى 8 آذار تثبيت الثلث +1 لهذا الفريق وللفريق الآخر من أجل تمكينهما من امتلاك سلاح التعطيل.
ـــ ليست عدائية لأي منهما، ولا تتوخى الاستفزاز. تبدو اقرب الى استيعاب خطورة الوضع وتداعياته الامنية، منها التسبب بتفجيره ومواكبة الفراغ متى اخفق انتخاب رئيس جديد.
ـــ تعتمد المداورة التي يلح عليها الرئيس المكلف من دون توزيع كيدي للحقائب. تأخذ في الحسبان مواقع الأفرقاء وحساسية الوزارات.
ـــ الى رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، ترضي قوى 8 آذار والنائب وليد جنبلاط وقسماً من قوى 14 آذار كحزب الكتائب، وربما آخرين كبعض نواب هذا الفريق، وتفتح الباب على مناقشة داخلية جدية في «تيار المستقبل» لتفادي عرقلتها ورفضها. ورغم تصعيد أطراف في التيار مواقفهم ضد حكومة 9 ـــ 9 ـــ 6 وإصرارهم العلني على منعها، بين هؤلاء من تكلم مع رئيس المجلس وأخبره أنه يؤيد معادلة كهذه على رأسها سلام لإخراج البلاد من مأزقها. يقول بري أمام زواره أنه سمع كلاماً صريحاً من هؤلاء بتأييد وجهة نظره.
وسواء مثلت حكومة 9 ـــ 9 ـــ 6 أمام مجلس النواب أو لا، يحيل صدور مراسيمها الحكومة المستقيلة حكومة سابقة.
أما الوجه الآخر من المأزق، فهو استمرار حكومة ميقاتي وتسلمها صلاحيات الرئاسة كي تواكب في آن واحد فراغين متلازمين: تعثر تأليف حكومة، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
تجبه في الوقت نفسه مأزقاً من نوع آخر: عملاً بالمادة 62 من الدستور، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء. منذ استقالتها لم تلتئم حكومة ميقاتي سوى مرة واحدة، ما يحيل مهمتها وهي تتنكب صلاحيات الرئاسة متعذرة: لا يسعها تعويم نفسها دستورياً في ظل استمرار وجود رئيس مكلف، ولا ان تجتمع. إلا ان توليها صلاحيات الرئيس يقتضي التئامها من اجل اتخاذ القرارات والمراسيم. لا تصدر هذه الا بتواقيع الوزراء اعضائها جميعاً، لكون صلاحيات الرئيس انتقلت اليهم مجتمعين. عندما شغرت الرئاسة عام 2007 حتى انتخاب سليمان بعد ستة اشهر، اصدرت حكومة السنيورة مراسيمها والقرارات ممهورة بتواقيع الوزراء جميعاً ما خلا الوزراء الشيعة الخمسة المستقيلين والوزير الارثوذكسي يعقوب الصراف المستقيل بدوره. بعد اغتيال الوزير بيار الجميّل، ظلت حكومة السنيورة تمسك بما تجاوز ثلثي مجلس الوزراء، ووقع المراسيم والقرارات 17 من وزرائها الـ24. الا انها اضحت حكومة 14 آذار.
تبدو المشكلة اكثر تعقيداً مع حكومة ميقاتي في ظل خلافات تعصف بأفرقائها، ما يعرقل انعقادها. او على الاقل يستعيد فكرة المراسيم الجوالة التي دارت بين وزراء حكومة الرئيس رشيد كرامي عامي 1986 و1987، ثم مع خلفه الحص بين عامي 1987 و1988. الا أن لا مرسوم يصدر بلا توقيع الاكثرية المطلقة من الوزراء.