في حديثه إلى قناة «الميادين»، طالب فواز طرابلسي بـ«تنظيم النقاشات» خارج التخوين؛ هذا ما سأفعله الآن. وهذا ما كنتُ فعلته سابقاً من دون ردّ فعل حواريّ من طرفه. وسأكرّر: أنا من قرّاء أعمال طرابلسي الأساسية، وأكنّ للأقسام الأولى من كتابه «تاريخ لبنان الحديث» تقديراً خاصاً. وليست بيننا معرفة أو شربكة علاقات تدفعني إلى الإيقاع به، أو اصطياده. ولا أضعه في موضع حليفه السياسي حازم صاغية، المدهش في ما يكشفه من هبوط صريح على صفحته على فايسبوك. أقلّه: طرابلسي، كما صرّح لـ«الميادين»، لا يعمل مع الصحافة الخليجية مثله، ولا يجلس في أحضان آل سعود ليهاجم الدكتاتورية السورية. بل إنني أفهم التحالفات، فأنا أؤيد، بلا لبس، معركة النظام السوري ضد الإرهاب التكفيري، وأجد لي، في موقفي هذا، حلفاء لا أرضى عن قماشتهم أو مسلكهم أو خطابهم إلخ، كما أنني أتحالف مع حزب الله من موقع نقدي صارم؛ هل يمكن طرابلسي أن يكون متفهّماً ومتسامحاً إزاء تعقيد كهذا؟
حديث طرابلسي إلى «الميادين» كان، في جوهره، ضرباً من الاعتذار الضمني والتوضيح الصريح. وحسناً فعل: أوضحَ أنه لا يزال ماركسياً ويسارياً ومدركاً أولوية الدوافع الاجتماعية للانتفاضات العربية، ومسانداً للمقاومة ومعادياً للنيوليبرالية وللأنظمة النفطية الأوليغارشية وللتنظيمات التكفيرية الإرهابية، وأنه ليس مع 14 آذار، وضد نزع سلاح حزب الله إلخ. كل اختلافه ينحصر في نقطة واحدة، هي أنه ضد تدخّل الحزب في الحرب السورية؛ فهل يستحق، لهذا، وصفه بالخيانة؟ سأغضّ الطرف عن هذا الادّّعاء. فلطرابلسي مواقف عنيفة ضد الحزب قبل واقعة تدخله العسكري في سوريا، بل لمجرد أنه أعلن رفضه لإسقاط النظام السوري.
لا بأس! سأتابع مع طرابلسي، حَمَلاً وديعاً جرى الاعتداء عليه، وتمنّي الموت له، وتهديده، وتجريصه لأنه تعامل مع جهة أجنبية لها مكتب في إسرائيل، مع أنها موّلت، نشاطات آخرين، غير العدد السادس من مجلته «بدايات»، وأسأل: ألا يحتمل أنصار معسكر المقاومة مثقفاً يؤيدهم في كل شيء تقريباً، ويختلف معهم في رأي واحد فقط؟ خطاب طرابلسي، في حديثه التلفزيوني، وجيهٌ. ونحن سنناقشه، لا بالاتهامات، ولا بالمماحكة، بل في حدود خطابه.
أولاً، بالعودة إلى ما نقله زياد الرحباني عن والدته، فسنجد أنه لم ينقل عنها أنها تؤيد قرار حزب الله بالقتال في سوريا، بل نقل عنها أنها تحبّ السيد حسن نصرالله. وقد تكون تحبه لصدقيته أو نزاهته أو رمزيّته كمقاوِم في مواجهة إسرائيل إلخ، ولا تؤيّده، مع ذلك، في كثير من سياساته، بما في ذلك قتاله في سوريا. لكن طرابلسي بادر إلى تقويل ما نُسبَ إلى السيدة فيروز، ما لم يرد في ما نُقل عنها أصلاً، واستنتجَ، من دون أي مسوّغ، أنها تحب قتاله في سوريا. وبالمقلوب، نستطيع القول إن طرابلسي يفترض بمَن كان يحب نصرالله، لأي سبب ما، أن يكرهه الآن، ما دام قد تدخّل في سوريا. أصبح نصرالله، إذاً، جديراً بالكره، ومن يتجرّأ على حبه، بعد سوريا، لا بدّ أن يُدان. وفي هذا السياق بالذات، لا في سواه، يغدو ما يعتبره طرابلسي مجرد «خبر» عن العلاقات التاريخية بين السيدة فيروز والرحابنة من جهة والنظام السوري من جهة أخرى، تعريضٌ مقصود لئيم في تفسير ما يراه طرابلسي ما هو غير منطقي؛ فالمنطقي الآن، بعد انتصار حزب الله للنظام السوري، أن يكره الجميع نصرالله وحزبه.
ثانياً، الماركسية، في حدّ ذاتها، ليست موقفاً؛ فلا يمكن المرء أن يكون مثقفاً في عصرنا، وبغض النظر عن اصطفافه السياسي، بلا إلمام معقول بأدوات التحليل الماركسي. و«الماركسيون»، بهذا المعنى، كُثُرٌ لدى صحافة السعودية ولدى 14 آذار، بل ولدى التكفيريين الإرهابيين في سوريا، كما هي حال ميشيل كيلو مثلاً.
إلا أن ما ينقص ماركسية طرابلسي ــــ ككثير من «الماركسيين» ــــ هو أسّ الماركسية، أعني الديالكتيك؛ فطرابلسي يحلل الظواهر الاجتماعية والسياسية، كلاً على حدة، على أساس «ماركسي»، لكنه لا يربطها معاً في تحليل ديالكتيكي؛ فحين يصل طرابلسي ــــ وهو محق ــــ إلى اعتبار أن الانتفاضات العربية، في مضمونها الأعمق، هي انتفاضات ضد الأنظمة النفطية الأوليغارشية، ويطالب، تالياً، بإسقاطها، ثم لا يرى أنها تخوض حرباً شعواء، مستخدمةً الإرهاب التكفيري، ضد الدولة السورية، يكون قد عمي عن ملاحظة الواقع الملموس، وتجاهل سؤالاً حيوياً هو: لماذا تحارب تلك الأنظمة، حتى الموت، النظامَ السوري؟ أليس لأنه، بغض النظر عن استبداديته وبؤر فساده، يشكّل نقيضاً ما لها؟ وفي هذه الحالة، أليس مَن يتمنى، صادقاً، إسقاط الأنظمة الخليجية، سيسارع إلى التحالف، ومن موقع نقدي مستقل، ولو تكتيكياً، مع النظام السوري؟
في الـ«سي في» الثوري لطرابلسي، كما ذكّرنا به في «الميادين»، أنه معاد للتكفيريين الإرهابيين من «داعش» و«نصرة» وسواهما. حسناً، فهل الكتابات تكفي لمواجهة هؤلاء المتوحشين المصمّمين على ذبح «الأغيار» وتدمير البلاد وتحطيم نسيجها الاجتماعي، وإقامة حكم الشرع بالسيف في سوريا، أم أن العداء الحقيقي للتكفيريين الإرهابيين المقاتلين إنما يكون بقتالهم؟ ألا نستنتج، هنا، أن الجيش العربي السوري هو الذي يقدم، اليوم، التضحيات الجسام، ويقاتل على الأرض، ليجعل من عداء طرابلسي للتكفير والإرهاب معركة فعلية، وليمنح الموقف التقدميّ لطرابلسي الفرصة ليعيش؟ ثم، كيف يفسّر طرابلسي ذلك التحالف العلني بين السعودية، رأس الحربة في مواجهة النظام السوري، وإسرائيل؟ وكيف لا يرى الرابط بين القتال ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان وبين القتال ضد العدوان السعودي على سوريا؟ ولماذا يكون كفاح حزب الله ضد أحد طرفيّ التحالف الشرير ذاك مقبولاً، بينما يكون قتاله ضد الطرف الثاني، السعودي، مرفوضاً؟
ثالثاً، الماركسية، بوصفها مادية تاريخية، لا يمكنها إلا أن تصبّ في الدرس اللينيني القائل بالتحليل الملموس للواقع الملموس. مَن يتغاض عن هذا الدرس لا يعود، بعد، ماركسياً. وفي الواقع السوري الملموس الآن حربٌ، لا بين النظام السوري والمعارضة السورية، بل بينه وبين قوى تتفق، على تفرقها التنظيمي، على مبادئ السلفية الجهادية والتكفير وتهدف إلى إسقاط النظام ذاك لإقامة إمارة أو إمارات طالبانية في سوريا، وهو ما سيؤدي، بالنظر إلى التعددية الدينية والمذهبية في البلاد، إلى تقسيمها. وتستخدم تلك القوى، المدعومة من السعودية والخليج وتركيا ومن ورائها الإمبريالية، في سبيل تحقيق أهدافها، وسائل إجرامية صريحة من الذبح على الهوية وترويع الأبرياء والتطهير الطائفي وتدمير البنى التحتية إلخ. هل يماري عاقل نزيه في أن الصراع الراهن في سوريا هو كما وصفناه قبل قليل؟ هنا يأتي اتخاذ الموقف: أترفض انتصار التكفيريين؟ إذاً، فمن المنطقي أن تؤيد الجيش العربي السوري في قتاله ضدهم بالكلمة وبالسلاح، أم أنك تريد انتصار أولئك الوحوش الضارية فعلاً، فتسمّيها «معارضة»، وتدعمها؟ أم تؤيدها وتخجل، لأنك «ماركسي» و«يساري»، فتطلب النأي بالنفس، وتدين رجال حزب الله والسوريين القوميين لأنهم قرروا مساندة الجيش السوري في صد الهجمة الإرهابية؟
استبدادية النظام السوري مسؤولة عمّا وصل إليه وضع البلاد؟ انفتاحه النيوليبرالي في السنوات الأخيرة ساعد على نشوء الحواضن الإرهابية في الريف؟ نهجه في تسهيل مرور الإرهابيين إلى العراق بحجة المقاومة، شرّشهم في سوريا؟ رفضه التعاون للتوصل إلى حل مبكر مع القوى المدنية والديموقراطية، منح الإسلاميين فرصة السيطرة؟ كل ذلك يتسم بهذا القَدر أو ذاك من الصحة، ويمكن، ويجب «تنظيم النقاش» حوله. لكن نحن الآن في مواجهة دامية مع هجمة همجية. هذه الهجمة الإرهابية السعودية لن تسمح لنا بعد بأي نقاش من أي نوع. فما العمل الصحيح الآن؟ أليس هزيمة الإرهاب أولاً.
يدعو طرابلسي إلى إسقاط الأنظمة الخليجية، والأنظمة الحليفة لها. ممتاز! لكن السؤال الملموس الآن: هل إسقاط النظام السوري سيضعف أم سيقوّي، واقعياً، تلك الأنظمة التي يكرهها طرابلسي؟ هل سقوط الرئيس بشار الأسد سيمهد الأرض لسقوط السعودية والوهابية والإسلام السياسي التكفيري أم سيعطي كل هذه القوى السوداء دفعة جديدة؟ هذا هو السؤال الملموس المطروح. وبإمكان طرابلسي ألا يجيب عنه، محتفظاً بصمته، لكنه لا يستطيع أن يقول أنا ماركسي ويساري ومقاوم ومعاد للسعودية إلخ إلخ، ولكنني أريد، أو أقلّه لا آبه، بسقوط النظام السوري.
رابعاً، هنا نخلص إلى السؤال عمّن هو اليساري؟ لا مراء في أن طرابلسي، بصفته، وفق إعلاناته، ماركسياً ونصيراً للكادحين ومعادياً للنيوليبرالية، لديه سمات يساري، لكنها يسارية لا تكتمل من دون ديالكتيك الاصطفاف ضد الهجمة التكفيرية الإرهابية. وهذا الاصطفاف لا معنى له من دون دعم الذين يقاتلونها، بالفعل، من رجال الجيش السوري وحزب الله.
اليساري ليس ذلك الذي يكفّ، لحظة واحدة، عن نقد الاستبداد والفساد والنيوليبرالية في سوريا، لكنه، بالتأكيد، ليس ذاك الذي يقف في صف السعودية ضد سوريا، ويغضّ الطرف عن المعركة ضد الإرهاب في الجمهورية الشقيقة. اليساري هو الذي يشارك، من موقع مستقل ونقدي، في تلك المعركة، لا بالكلمة فقط، بل بالسلاح. ومأساة اليسار العربي ــــ وخصوصاً المشرقي ــــ أنه يتخلى عن خوض هذه المعركة بالذات، تاركاً إياها لحزب الله والسوريين القوميين، وحارماً نفسه، بالتالي، من المشاركة الفعالة في صنع سوريا الجديدة. اليساري في لبنان اليوم ــــ كما في الأردن وفلسطين ــــ ليس ذلك الذي يبحث عن منأى عن المعركة الكبرى منشغلاً بإصلاح داخلي مستحيل، بل ذلك الذي يعلن، بعفوية زياد الرحباني، «نحن بلد واحد، 200 بالمية».
خامساً، ما هو السرّ الذي يقبع، إذاً، وراء تجاهل كل الملموسات الخاصة بالصراع في سوريا، لدى طرابلسي وسواه من المثقفين؟ بعضهم مرتزق بالطبع، وبعضهم مرتبط بالتأكيد، لكن، بالنسبة إلى طرابلسي ــــ ومَن هم مثله وفي سوّيته ــــ فأظن ذلك السر يكمن في جذور التربية في مدرسة/ مدارس سياسية كان العداء لسوريا، عندها، تاريخياً، أقوى من العداء لإسرائيل. وهو ما يحتاج، بعد اليوم، إلى مراجعة ونقاش صريح.