تبدأ رواية عباس بيضون «الشافيات» (الساقي) بعودة بطلها جلال مزهر إلى قريته الجنوبية، وإلى منزل جدته بالتحديد، لكن القارئ سيعرف بسرعة أن هذه البداية هي نهاية الرواية تقريباً، وأنها لا تحتاج إلا إلى بعض الترتيبات السردية لكي تصبح خاتمة كاملة. يُعيد بيضون السرد إلى الوراء، ويُبقيه في الحاضر أيضاً، مستثمراً ذهابة وإيابه المتكرر في استكمال الحكاية، مانحاً القارئ الإحساس بأنّ الرواية تتألف في لحظة قراءته لها.
يتعزز هذا الإحساس باستخدام ضمير المتكلم الذي يوهمنا بجعل الحكاية نوعاً من السيرة، ولكن ذلك يظل وهماً يتلقى جرعات تبدو حقيقية أحياناً، لكن إعادة كتابتها أو تموضعها الجديد في السرد يُبطل أو يُضعف نسبها إلى المؤلف. سنعرف أنّ الجدة المتوفاة كانت قادرة على شفاء المرضى، وكانت لها كرامات طوَّبتها وليّة في نظر أهل القرية، ولكن جماعة «أهل السراط» رفضوا الاعتراف بذلك. وسنعرف أن البعض عاث في منزلها وحطم بعض محتوياته لمجرد أنه بات خالياً.
في القرية، يستعيد بطل الراوية وراويها طفولته ونشأته وحيداً مع جدّيه، بعد هجرة والديه إلى كولومبيا. سنعرف عن انتقاله إلى بيروت وزواجه بكاميليا، وانتسابه لـ «حزب الشعب»، عن معرفته المبكرة بعدنان عليان، الذي سيُشتهر بنفوذه وعنفه في سنوات الحرب، عن علاقته بابنة خالته المتزوجة سلمى، عن احتراق المركب الذي آلت ملكيته إليه من الحزب، وكان مسخّراً من قبل مجموعة بحارة للتجارة والتهريب. خطوط عريضة وتفصيلية مثل هذه ستكون موجودة في خلفية كل ما يجري بعد عودة جلال إلى القرية، التي سيكون رفيقه عدنان قد عاد إليها قبله، وقد أصيب بالسرطان وينتظر موته في أي لحظة. ستتحول «روزيت» زوجة عدنان إلى مشروع جنسي في الأفق، وتنشط علاقته بسلمى في فترة حَرَدها في القرية، بينما طلاقه من كاميليا قبل عودته يفاقم وحدته. وحدها علاقته المستجدة بالأرملة الشابة صبحية تدفعه إلى مراجعة حياته التي ستبدو له خالية من بصمته الشخصية وخياراته الخاصة. سيتساءل في الصفحة الأخيرة من الرواية بعدما وضعته صبحية في لحظة الاختيار: «كيف أستطيع أن لا أكترث بمن اختارني؟ إني أجدهم على طريقي ولا أستطيع إلا أن أماشيهم. الأصدقاء صاروا كذلك لأنهم أرادوني صديقاً. الحبيبات صبرتُ إلى أن تحرّشن بي. اليوم صبحية تختارني زوجاً، وهذا بالطبع يتطلب جهداً أكبر».
لعل الانصياع أو «الخنوع» بحسب عنوان رواية توماس مان الشهيرة، هو التوصيف اللائق بتصرفات بطل الرواية المكتفي بمجاراة ما يحدث له، بدلاً من أن يصنع ذلك. لا نتأخر كثيراً في اكتشاف هذه الشخصية الانسحابية التي تحظى بمعجم لغوي متردد ونبرة زاهدة بالحياة، لكنّ ذلك لا يعوق صاحبها عن التلذذ بالمُتع والسَّعادات التي يحصل عليها بانسحابه وزهده ومسايرته. الواقع أن قوة الرواية وجاذبيتها موجودتان في هذه اللغة المتريّثة تريّث بطلها، التي تسمح لصاحب «ألبوم الخسارة» بأن يُحصي خسارات من نوع آخر، وأن يعود إلى ما يمكن تسميته ملعبه المفضّل، وهو ملعب السيرة الذاتية التي أدهشنا بسرد أجزاء واسعة منها في «مرايا فرانكنشتاين» أيضاً. لا يكتب عباس بيضون سيرة ذاتية طبعاً، لكنه ينجح في توريطنا أو خداعنا بما يشبه السيرة، أو لنقل إنّ السرد حميم وقريب أكثر من روايته السابقة «ساعة التخلي» التي تخلّى فيها على نحو كامل عن استثمار سيرته، وأن الشاعر الذي تربّى طويلاً في داخله بات بارعاً أكثر في تأليف رواية يبتعد فيها إلى حد ما عن معالم سيرته، وعن لغته الشعرية التي نشأت ونضجت في كنف النثر أساساً. الابتعاد لا يمنع صاحب «الوقت بجرعات كبيرة» من استثمار نتف من السيرة، وطبقات من لغته وجملته وأسلوبه. «الشافيات» هي خليط من هاتين التقنيتين. خليطٌ يسمح للمؤلف باستدعاء جانب من تجربته في «منظمة العمل الشيوعي» لكتابة فقرات عالية الجودة عن التجربة الحزبية لبطله، بينما تساعده لغته النثرية المسنّنة والحيادية على كتابة حيوات ومصائر الشخصيات الأخرى في الرواية. هكذا، يجد القارئ نفسه أمام كاميليا القوية، التي اختارت جلال وطلّقته، وأمام صبحية التي ترتقي من عاملة في منزل جلال إلى احتمال أن تصبح ربة المنزل، وأمام عدنان عليان، الذي يحاول محو ماضيه الميليشياوي بتأليف نصوص أدبية ركيكة، وأمام دكان الخياط يوسف، الذي تحوّل إلى مقرٍّ للحزب الذي يتلقى جرعات ساخرة من المؤلف أكثر من البطل. التأليف هو سمة الرواية، التي تنبعث منها أفكار وتأملات وحتى مزاج عباس بيضون في كتاباته وحياته. المقربون منه ومن تجربته يسهل عليهم العثور عليه متلبّساً في الرواية، بل يستطيعون وضع خطوط تحت جمل وسطور كاملة مجلوبة من لغته التي عرفوها في شعره، لكن ذلك يحدث في السرد الذي يُكتب بجرعات كبيرة أيضاً.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




الجملة البيضونية

برغم أنها روايته الخامسة، إلا أننا لا ننسى أن عباس بيضون الشاعر هو مؤلفها. ستظل هذه الهوية الأولى تطارده حتى وهو يُريح نبرته ولغته من الكثافة والمجاز. صاحب «خلاء هذا القدح» يعرف أن اللغة نوع من الجِلْد، وأن «الجملة البيضونية» التي تربّى عليها، ستلحقه في رواياته كما تلحقه في مقالاته ونصوصه النثرية أيضاً. أحياناً، نحس أن انطباعاتنا المدهشة عن شعره هي التي تتدخل في تأليف انطباعاتنا بروايته، وأن هذه الكتابة السردية التي يُطلب منها أن تكون مسترخية لا تتراخى كلغة ونبرة، وأنها تحتفظ بالشعر في أحشائها. الشعر الذي يجعل أحد فصول الرواية يبدأ بجملة مثل «السماء مسقوفة بالغيم والنهار ضعيفُ البصر».