حمزة حرقوص *تحفظ معظم برامج تدوين الملاحظات على الهواتف بالمعلومات في مكان «آمن» على الإنترنت، لا يشوبه النسيان نظرياً. لكن الأمور لن تأخذ مئات السنين لتنتقل هذه الظاهرة إلى طور جديد يمكن تسميته «الذاكرة التلقائية». عمّا قريب، لن يعود هاتف الغالاكسي من سامسونغ فقط لتدوين الملاحظات، بل سيؤدي هو نفسه دور ذاكرتنا البديلة التي لا تنسى.

بشائر هذا التطور بدأت مع برامج الهواتف الذكية أو الأجهزة الصغيرة التي تستطلع محيط الإنسان عبر حساسات (sensors) تستشعر الصوت والصورة والمكان والحرارة والحركة. على سبيل المثال، يعمل تطبيق Heard على الآيفون كمسجلة دائمة لكل ما يقوم به الإنسان، ويخوّل من يستعمله أن يعود في الزمن ويحفظ ما جرى في الخمس دقائق الأخيرة إذا رآها مهمة. إلا أن ذلك لا يقتصر على الهواتف الذكية، بل يتعداه إلى ما يعرف بالأجهزة الملبوسة (wearable devices)، مثل الساعات الذكية وغيرها من الأسورة الإلكترونية. Narrative مثلاً، هي كاميرا صغيرة تعلّق على الثياب تصوّر محيط الإنسان أوتوماتيكياً مرّتين في الدقيقة لتسجّل أهم لحظات حياته، ثم تعرضها له لاحقاً حسب الزمان أو المكان. حتى شركة غوغل، أضافت إلى نظام الأندرويد أخيراً ميزة تسهّل للمبرمجين معرفة ما إذا كان حامل الهاتف يمشي، يقود السيارة أو الدراجة، أو يقف جالساً.
تأخذ هذه الوسائل منحى آخر عندما تصبح أكثر شمولاً، فتجمع، إضافة إلى ما تحصل عليه من الحساسات، ما هو موجود على حسابات الشخص على وسائل التواصل الاجتماعي، وما يقوم به على الإنترنت، وما يستمع إليه من موسيقى، والأشخاص الذين يتواصل معهم، كما هي الحال في برنامج Friday ذي الشعار الآتي: «ماذا عن دماغ ثانٍ؟!»، الذي يحتاج إلى رفع كل هذه المعلومات إلى الإنترنت حتى يعمل على أرشفتها وتقديمها على شاكلة مناسبات على خط زمني.
لكن كيف لقطعة إلكترونية أن تقلّد عمل الذاكرة؟ كيف لها مثلاً أن تعلم ما هو الضروري تذكره، وما هو الممكن تجاهله؟ هذا ما يعمل عليه مثلاً الباحث «ميكيلي كاتاستا» (Michele Catasta)، من جامعة EPFL، سويسرا، ضمن مشروع «Memories». كاتاستا أوضح في حديثه لـ«الأخبار» أن ما يجب تذكره يعتمد على الهدف المرجوّ من هذه المعلومة. فإذا كان الشخص يحرص على تنفيذ شيء روتيني كالرياضة أو الحمية الغذائية، يكون التركيز على تذكر الأشياء المتكررة. أما إذا كان الشخص يريد تذكر الأشياء اللافتة في حياته، فعندها أي شيء خارج عن المألوف هو مدعاة للاهتمام، كاتصال يأتيك في الثالثة فجراً أو مكان تزوره للمرة الأولى. ومن الوسائل التي يذكرها لذلك هي معرفة الأماكن ذات الضوضاء عبر ميكروفون الهاتف أو معرفة الأشخاص المحيطين عبر «البلوتوث». يضيف كاتاستا، الذي يستعد لإنهاء دراسة الدكتوراه ومن ثمّ إنشاء شركة بناءً على أبحاثه في هذا المجال، أنّ مشكلة العديد من التطبيقات الموجودة، هي اعتمادها على إرسال كل معلومات الشخص إلى الإنترنت لمعالجتها، ما يخلق حاجزاً نفسياً مردّه إلى قلق الشخص على خصوصيته. والتحدي الذي عمل عليه هو القيام بتحليل المعلومات على الهاتف أو الآلة دون اتصال بالشبكة. ومواجهة تحدي الخصوصية هذا يبدو الأبرز في تسويق الذاكرة التلقائية أو الدماغ الرديف. ففي وسط كل التسريبات الأخيرة عن قدرة وكالات الاستخبارات على أن تفرض على الشركات التكنولوجية العاملة على أراضيها أن تقدم معلومات المستخدمين لها، من الصعوبة بمكان أن يثق عامة المستخدمين بالشركات الجديدة ويعطوها كل تلك المعلومات طواعية في مكان واحد. المستقبل الأنجح يبدو لمن يمكنه الموازنة بين تقديم الخدمة للمستخدم والحفاظ على خصوصيته في الوقت نفسه. وهنا سيكون المفصل، إذ إن الزمن الذي تكون فيه الثقة بين الشركة والمستخدم هي الضامنة الوحيدة للأخير، على وشك أن يولّي. لذلك، من المتوقع أن يعلي الجيل القادم من الشركات في هذا المجال راية الخصوصية كأبرز خاصية لمنتجاته (Pryv مثلاً).
ومن الناحية الاجتماعية، لا يتوقّع أن يمرّ الأمر مرور الكرام، فمن المتعذّر استئذان كل من يُسجَّل صوته أو أخذ صورته عبر الذاكرة التلقائية، وهذا ما ظهر مثلاً في حالة نظارات غوغل (Google Glass)، التي قد تصبح وسيلة لدعم هذه الذاكرة، والتي منعت في العديد من المطاعم الأميركية لقلق مدرائها وروّادها من مخاطر تجسس حامل تلك النظارات. كذلك فإن ملكية هذه الذاكرة قد لا تعود للإنسان وحده؛ لأن كل شخص عرضة لأن يدخل في ذاكرة الآخرين، ولذلك فإن جهوداً ستبذل على الجانب التقني لمعالجة ذلك، مثلاً من خلال وسائل يتعاون فيها الجميع على حفظ خصوصياتهم على أساس المصلحة المتبادلة. وكذلك فالجانب القانوني يحتاج إلى تشريعات جديدة تواكب هذه الأمور المستجدة.
إنه «دماغ رديف» تحت الصقل في مراكز الأبحاث والشركات. من خصائصه أنه يتذكّر أوتوماتيكياً ما بُرمج على تذكره. بالتأكيد، لن يعرف هذا الدماغ الولوج إلى مشاعر الإنسان وتدوينها أيضاً، أقلّه في المدى المنظور، لكن أدنى المتوقّع أنه سيأخذ عن عاتقه الكثير وأنه لن يكون من السهل تفادي الدخول في هذه الذاكرة إما بدماغنا الرديف أو عبر أدمغة الآخرين.

* باحث في الخصوصية الرقميّة يُعدّ لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة الفنون التطبيقية في لوزان