يزايد مسؤولو الدولة على مواطنيها في الشكوى من فساد الإدارات العامة وانعدام كفاءتها، ونعي القطاع العام، ويطلقون الوعود بالمنّ والسلوى، نتيجة مشاريع «الشراكة مع القطاع الخاص»، في قطاعات الكهرباء والاتصالات ومعالجة النفايات المنزلية، وربما المياه أيضاً. يقفز باعة الوهم هؤلاء بخفة مدهشة فوق الحقائق السياسية وواقع الدولة والإدارات العامة، حيث «الخيط الفاصل بين السياسيين والقطاع الخاص لا يُرى»، وحيث أُفرغت الإدارة العامة وخُربت عن سابق تصور وتصميم، من قبل أولئك المؤتمنين عليها، لمصلحة تحرير الاحتكارات الخاصة من الضوابط المؤسسية والقانونية والاجتماعية. لا جديد يُتوقع نتيجة «الشراكة» (إذاً) سوى المزيد من «استباحة» القطاع العام وحقوق العمال.
وظائف الريع السياسي

تريد النخبة الحاكمة من الدولة والإدارات العامة وظائف الريع السياسي والزبائنية والقمع فقط، دون وظائف الرقابة والمحاسبة وإدارة المصالح الحيوية للمجتمع، فتُفرغ مؤسسات الدولة من كفاءاتها الإدارية والفنية، وتحشوها بعشرات آلاف الأزلام، بغض النظر عن الحاجة والكفاءة. يقتبس ألبير داغر، في مقال بعنوان «جحيم الإدارة العامة اللبنانية»، قول روبيرت روتبرغ إن «الدولة الفاشلة» هي «تلك التي تنحسر فيها سلطة الدولة المركزية لمصلحة مقاولين سياسيين ينازعونها سلطتها»، وإن «التدمير المتعمّد لمؤسسات الدولة الرسمية» هو نهج النخبة السياسية، التي هي أيضاً نخبة مجتمع الأعمال، الهادفة إلى استدامة سلطتها وتعزيز مصالحها. يطاول الشغور في الإدارات العامة اللبنانية «نحو ثلثي الوظائف، ويصل إلى 85% أو 90% في الوزارات التي أُنشِئت بعد الحرب، ويتخذ شكلاً كارثياً في الفئات العليا للموظفين»، يقول داغر.
تتكرر عبارة «ما يُسمى الشراكة» عند سؤال اقتصاديين لبنانيين عن الموضوع. الجميع في لبنان يعرف أن طرفي «الشراكة» المسوّق لها هما واحد أحد: أرباب قطاع الأعمال الخاص هم أنفسهم أرباب الدولة. في غياب جهاز دولة مؤسسي وقانوني ومعبر عن توازن ما للمصالح الاجتماعية، يضع القوانين المرجعية الراعية للمصلحة العامة، ويضع المعايير والأهداف ويراقب ويحاسب ويقاضي عند الضرورة، تغدو «الشراكة» إمعاناً في الاستباحة للمؤسسات العامة والمال العام وحقوق العمال ومكتسباتهم.

قرم: لا نتائج إيجابية ملموسة

لا يرى وزير المال الأسبق، الباحث جورج قرم، نتائج إيجابية ملموسة لـ«الشراكة مع القطاع الخاص». لم يتحسن أداء القطاعات المعنية، ما خلا بعض الخدمات كالبريد والاتصالات، ولكن بكلفة عالية جداً. لم يجرِ احترام قانون العمل، وتفشت ظواهر «غير طبيعية وغير منظمة»، كظاهرة العاملين بالساعة، الذين لا يتمتعون بأي حماية اجتماعية أو بأبسط الحقوق، كالإجازات وتعويض التقاعد، وهو «شواذ نادر»، على حد تعبير قرم.
الشرط الضروري لنجاح مشاريع «الشراكة» هو إصلاح الإدارات العامة المعنية لتمكينها من «إدارة الشراكات بكفاءة»، يؤكد قرم. فعلى الدولة أن تضع «الإطار القانوني المرجعي للشركات»، وعليها أن تراقب وتضبط وتحاسب. لكن «المصالح الخفية بين السياسيين والإدارات والشركات»، التي تماهت مع تأثيرات «المؤسسات الدولية»، كصندوق النقد والبنك الدوليين والاتحاد الأوروبي، أملت سياسات «فرضت توجهاً خاطئاً لم يهتم بإصلاح القطاع العام» بعد الحرب، ومنذ مطلع التسعينيات. لا وجود فعلياً لوزارة التنمية (الإصلاح) الإدارية، ومؤسسات الدولة الرقابية، كالتفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية، خاضعة لسلطة رئاسة مجلس الوزراء، بدل أن تكون مستقلة، كما ينبغي، يقول قرم.

عطالله: الخلل رهيب

«لا موقف أيديولوجياً من الشراكة مع القطاع الخاص» عند الباحث الاقتصادي ومدير المركز اللبناني لدراسة السياسات LCPS، سامي عطالله، الذي يقوّم هذه المشاريع طبقاً لمبادئ التنافسية والمردود للخزينة العامة وكلفة الخدمة وسعرها وأوضاع العاملين في القطاعات المعنية. في التجربة اللبنانية لـ«ما يُسمى الشراكة»، لا تحصّل الخزينة ما يُفترض أن تحصّله بسبب غياب الشفافية والتنافسية. «الخلل رهيب» في آلية تلزيمات الدولة ومشترياتها، منذ بداية التسعينيات، يقول عطالله. الشفافية والتنافس الجدي ضروريان في عملية منح العقود، وإلا «فالتراضي، إن لم نقل السرقة». من يعرف تفاصيل العقود مع شركة سوكلين وكلفتها الحقيقية، مثلاً؟ وهل أجهزة الدولة قادرة على المراقبة وفرض تطبيق العقود؟ وهل هي قادرة على المقاضاة والمحاسبة؟
نصوص الكتب الأكاديمية حول «الشراكة» جميلة جداً، وكذلك «الشعر» الذي ينظمه فيها رجال الأعمال، لكن الواقع شيء مختلف تماماً، يقول عطالله. بعيداً عن التنظير والدعاية الترويجية، «الاحتكارات تسيطر على الدولة وأجهزتها»، وتصعب رؤية «الخيط الفاصل بين القطاع الخاص والسياسيين»، في واقع «مشوّه»، حيث بالكاد يلتفت أحد إلى ضرورة إقرار قانون منع «تضارب المصالح» بين التمثيل المفترض للمصلحة العامة عند من يتبوأون مواقع السلطة، وبين مصالح الأخيرين الخاصة. حيث «القطاع العام» و«القطاع الخاص» مجالان متداخلان وخاضعان لهيمنة نخبة سياسية - مالية واحدة، لا يشكل بيع أصول الدولة أو تلزيم بعض وظائفها لـ«لقطاع الخاص» تحولاً من حال الترهل والفساد إلى حال الكفاءة والفعالية، كما تزعم الدعاية الترويجية، بل إيذاناً بالمزيد من الشيء نفسه.