لا خوف كخوف المسيحيين هذه الأيام. يخشون الغور في هذه الأرض أو وداعها إلى منافي الغرب. أكثر من مؤتمر عُقد في الآونة الأخيرة يعكس حيّزاً كبيراً من المخاوف التي يواجهها المسيحيون المشرقيون، ويحاول أن يقترح مداخل إلى حلول ممكنة برغم كل ما يلحق بهذه المنطقة من تهشيم وتدمير وتفكيك للبنى الثقافية والدينية والاجتماعية.
وبرغم كل الفضاءات الذهنية التي تحمل الكثير من سموم الفكر وصدام الرؤى، وما ذلك إلا لكون العبقرية المسيحية كما يقول جورج قرم: «تكمن في هذا الرجاء الاستثنائي من القدرة على التغلب على الموت»، لكن قبل أن نشارك المسيحيين قلقهم وهمومهم بتقديم بعض الاقتراحات لمواجهة التحديات التي تعترض كينونتهم ووجودهم وتموضعهم الحضاري في هذا الشرق، فإنّ من المفيد التوطئة ببعض المفاهيم التأسيسية، وإن كان قد سال فيها وحولها حبر كثير.
أولاً: إنّ المسيحية المشرقية جزء عضوي من الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي. شهادة ميلادها صادرة عن هذه الأرض. هنا نشأت ونمت واستقرت وتوهجت ببريق المحبة وأصبحت منبعاً للإلهام الفلسفي والروحي.
ثانياً: إنّ حضور المسيحيين في المشرق حضور أصيل داخل النظام الحضاري العربي والإسلامي. عملوا وتحركوا تحت شمس العروبة والإسلام ما يعني أنهم أصلاء لا طارئون ولا غرباء، بل من لحم هذه المشرق وترابه وروحه.
ثالثاً: إنّ هذا المشرق مجال مفتوح على الإيمان الحر. أراضيه أراضٍ رسولية ورسالية. على هذه الأرض تصنع عجينة الإيمان وتصدّر إلى كل بلاد العالم.
بناءً عليه جاءت ركيزة التعايش ضمن السياق الطبيعي لمسلكية التاريخ ومن أصول التطور الروحي لكل الأجيال التي تعاقبت وعاشت في هذا الشرق، وبوصفها قوة إحيائية، تعلو فوق التباينات والفروق الاعتقادية، بمقدورها التجسّد من خلال الرغبة المستمرة عند جميع أتباع الأديان والمذاهب في أن تبقى هذه الأرض ميداناً مشعّاً للخير والتفاعل والجمال. إلا أنّ واقع الحال اليوم استقر على شقاق رهيب وبات عرضة للهمجية والعنف وتصدّع التوازنات السياسية والتوافقات الاجتماعية. والمسألة الأكثر خطورة وسط موج الانحلال الزاحف من قبل الجماعات الجهادية الإرهابية تكمن في غياب البديهيات في تصرفاتها. حرمة دماء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، حرمة المساس بأموال وأعراض المدنيين، حرمة التمثيل بالقتلى، حرمة الاعتداء على دور العبادة، وغيرها من البديهيات التي أخرجت هذه الجماعات من كونها تنتمي إلى دين الرحمة والتسامح والاستقامة إلى كونها تتبع أيديولوجيا عدمية عبثية لا تستوي على معايير محددة ومعروفة.
ووسط جو هُجاسي يغذي المخاوف الوجودية للمسيحيين في الشرق، من فلسطين المحتلة التي لم يبق من مسيحييها إلّا النزر القليل، إلى العراق الذي وصل عدد المسيحيين الذين غادروه إلى أكثر من مليون ونصف مليون، إلى مصر، حيث يواجه الأقباط فتنة طائفية لا مثيل لها، وصولاً إلى سوريا، التي هجرها معظم المسيحيين ودمرت معالمهم الدينية التاريخية، يقف المسيحيون، أمام تساؤلات متزايدة: أيتجهون لطلب حماية الغرب، والغرب هو أصل محنتهم وويلاتهم حين تدخل مقسماً وناهباً وصانعاً لكل التكوينات الطائفية السياسية في المنطقة بمعناها السياسي تحت مسمى «الأقليات»، كي تحفظ له نفوذه عبر تصادمها واقتتالها الأبدي، أم يسعون إلى مقاومة ديناميات العنف والدموية والبربرية في ظل العواصف العاتية الآتية من الخارج، التي تضرب المنطقة بهدف قلب الأوضاع والتوازنات وبسط نظام وواقع جديدين!
لسان حال المسيحيين القلقين التائهين اليوم، يقول: كيف السبيل للخروج من هذا الواقع الداكن الذي لا ينفذه نور العقل والإيمان والإنسانية؟ كيف السبيل لِلَأْم الجروح وسد الصدوع ووقف هذا المسلسل الدموي المفتوح على الكراهية والتعصب، الذي يذكرنا بزمن الحروب الدينية المتوحشة في أوروبا. لا شك أنّ الإجابات صعبة، لكن فلنسهم معاً في وضع بعضها على سكة التداول والنقاش العلمي.
أولاً: إنّ أزمة المسيحيين ليست أزمة خاصة بهم، بل هي أزمة الوجود الجماعي لكل أهل المشرق على اختلاف مشاربهم الثقافية والسياسية وانتماءاتهم الدينية. وهي أزمة الحضارة المشيّدة على هذه الأرض، التي بارك الله فيها، كما هي بنحو قاطع أزمة المسلمين فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
ثانياً: على المسيحيين المشرقيين الذين لم يكونوا يوماً جزءاً من هموم الغرب، أن يتفحصوا من جديد توجهات وأنساق السياسات الاستعمارية الاستغلالية التوسعية التسلطية، التي لم تكن تأبه وتهتم لما يتعرضون له، بل لا بد من العمل على كشف مخاطر هذه التوجهات والسياسات على الوجود المسيحي المشرقي نفسه.
ثالثاً: لا بدّ من إعادة إرساء الدين وما يدعو إليه من قيم الخير والمحبة والسلام، وباعتباره مفتاحاً لتطوير حياة الإنسان وتحريره من الاستعباد والاستغلال والظلم، وبوصفه التعبير الأرقى عن العقلانية في وجه التيارات العدمية الهمجية والأيديولوجيات ذات الطابع التكفيري.
رابعاً: على المسلمين التأكيد على الوظيفة التوحيدية للإسلام، وعلى ما تمثله من منظومة استيعاب ووحدة وتوحيد، بحيث يكون وجود الشرائع وتنوع الثقافات في مجتمع واحد أمراً أصيلاً من صلب وجذر الحضارة الإسلامية.
خامساً: لا خيار أمام المسلمين والمسيحيين إلا بالعمل متضامنين لإظهار الأخوة الإنسانية المشتركة الكامنة فيهم، وإلا فمن خلال خطاب إنسانوي يوحد همومهم وتطلعاتهم ويجسد مبادئهم الدينية ويحقق رغبتهم الصادقة في العيش الواحد على أرض واحدة.
سادساً: الحوار الداخلي بين المسلمين والمسيحيين على قاعدة الاعتراف الإيجابي القائم على التفاعل البناء بعيداً عن نوازع الصهر والدمج والإكراه، والعصبيات الطائفية التي تمثل قاعدة للالتحاق بالنفوذ الغربي والانتظام في مشاريعه التجزيئية والانفصالية.
إن التحولات التي يشهدها المشرق العربي زادت من تفكك بنيته وتشكيلاته الاجتماعية، وطرحت على الصعيد الايديولوجي والسياسي، نزوعاً نحو تحقيق برامج سياسية ودينية تجزيئية، قد تقود إلى نزاعات وحروب دامية مستمرة، والمسؤولية تقع على الجميع بلا استثناء مسلمين ومسيحيين لوقف ديناميات التشرذم، وليكن الجميع في إطار تحرك حضاري واحد لتأكيد هوية مشرقية جامعة، تسعى إلى حفظ الإنسان برباط السلام.
* كاتب وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية