إشارات متناقضة تصدر منذ مدة من طهران. أطلق البعض العنان لمخيّلته. حديث عن «أزمة» وعن «شيخ غيّر وجه إيران»، في إشارة إلى الرئيس حسن روحاني الذي وُصف من قبل البعض بأنه «سادات إيران». كل ذلك جاء ربطاً بالموقف من الولايات المتحدة؛ حديث للمرة الأولى بين الرئيسين، وحوار بين وزيري الخارجية. في المقابل، هناك قادة أصوليون يشككون ويتصدّون، زاد من قيمة مواقفهم دخول قادة «الحرس الثوري» على الخط بتصريحات ارتفعت وتيرتها خلال الفترة الماضية، هم الذين ما كانوا يتحدثون إعلامياً إلا في ما ندر.
واقع لا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى تكتيكات المعركة الانتخابية التي خاض بموجبها حسن روحاني السباق نحو الرئاسة، والتي أقام وفقاً لها برنامج عهده. وقتها، أعلن أن مهمته الأولى هي تحسين الوضع المعيشي للمواطن الإيراني عبر تحفيز الاقتصاد. مهمة أكد أنه لا يمكن تحقيقها ما لم يتم رفع العقوبات الدولية عن إيران. ورفع العقوبات بحاجة طبعاً إلى حل للملف النووي، ما لا يمكن أن يحصل من دون انفتاح على العالم وحوار مع الولايات المتحدة. وهكذا مزجت الإدارة الجديدة رغيف الخبز بالكعك الأصفر ومستوى التضخم بمعدلات التخصيب، وحجم البطالة بكمية المخزون الإيراني من اليورانيوم. وباتت ساعات التدفئة لعائلة في أقاصي الريف الإيراني مرتبطة عضوياً بتقدم المحادثات مع مجموعة «5 + 1» (اقرأ الولايات المتحدة).
تحقق الفوز وتسلم فريق روحاني، وهو تركيبة هجينة من إصلاحيين وكوادر بناء، الحكم. وكان اتفاق جنيف النووي، الذي ربطت الإدارة الإيرانية الجديدة كلها مصيرها بنجاحه. بل أكثر من ذلك، بمجرد أن تم نقل الملف النووي من المجلس الأعلى للأمن القومي إلى وزارة الخارجية، تكون الإدارة الجديدة قد وضعت بيضها كله في يدي محمد جواد ظريف، الذي بات نجم الساحة. أليس لافتاً أن أحداً لم يحفظ اسم أي من أعضاء الحكومة الإيرانية باستثناء وزير الخارجية؟
في المقابل، يبدو واضحاً للجميع أن في إيران فريقاً آخر يتولى مجموعة من الملفات الأساسية التي يتصرف فيها بمنطق مختلف. هناك، في سوريا والعراق واليمن وغيرها، يخوض معارك ضارية سياسياً وعسكرياً وأمنياً. يحقق تقدماً في بعضها، وانتصارات في بعضها الآخر. لكنها كلها إنجازات لا يجد في الداخل من يثمّرها سياسياً على المستويين الإقليمي والدولي. أيام محمود أحمدي نجاد، كان التناغم موجوداً. كل مكسب ميداني يُصرّف دبلوماسياً. اليوم الوضع مختلف. إدارة الحكم، التي يفترض أن تكون الذراع السياسية والدبلوماسية التي توظف جهود هذا الفريق، تعيش في عالم آخر. وهذا ما يفسر تصريحات لأشخاص مثل قائد الحرس محمد جعفري، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني في وسائل الإعلام.
ما تقدم لا يعني أن مهمات روحاني تختلف عن مهمات نجاد أو أن حراك الأول يتناقض مع حراك الثاني. الملفات نفسها التي تسلمها نجاد في 2005 نقلت كما هي إلى حسن روحاني في 2013: الاقتصاد، البرنامج النووي، والعلاقة مع أميركا، بل أكثر من ذلك. حتى اللحظة، لم يفعل روحاني سوى استكمال ما بدأه سلفه، وخاصة في الملفين الأخيرين: حصد ثمار ما زرعه نجاد.
على مستوى الحوار مع أميركا، كان نجاد أول من فتح خطوطه. حصل ذلك في الأشهر الأولى من ولايته الأولى. وقتها، أدار نجاد، ممثلاً بصهره اسفنديار رحيم مشائي، حواراً طويلاً مع إدارة جورج بوش، عبر رئيس مجلس العلاقات الإيرانية ـــ الأميركية، هوشنغ أمير أحمدي. حوار بلغ مراحل متقدمة، وكاد أن يحقق اختراقين: الأول، تسيير رحلات جوية مباشرة بين إيران والولايات المتحدة. والثاني، إقامة تمثيل قنصلي إيراني في أميركا. عوامل كثيرة أحبطت هذا الحوار، أولها معزوفة إنكار المحرقة التي خرج بها نجاد، وكثّف العزف عليها. هناك أيضاً عدم جاهزية واشنطن، وقتها، لنتائج من هذا النوع، هي التي كانت لا تزال تراهن في ذلك الحين على قدرتها على إسقاط النظام الإسلامي في إيران.
حتى على مستوى البرنامج النووي، قد يفاجأ البعض بأن اتفاق جنيف، الذي يُطبّل العالم له اليوم، سبق لإدارة نجاد أن توصلت إليه (بمعنى مضمونه) قبل عامين من انتهاء ولايته الثانية. ما منع ولادته في ذلك الحين كان تملّص إدارة باراك أوباما منه ورفضها توقيعه. تملّص لم يكن الدافع إليه رفضها له، بل خوفها من تداعياته. كانت تدرك أن اتفاقاً كهذا سيؤدي حكماً إلى رفع العقوبات عن إيران، وبالتالي خسارة العصا التي كانت ترفعها في وجه الجمهورية الإسلامية قبل أن تحسم معها الوضع في باقي الملفات العالقة في المنطقة.
بالتالي، يمكن الاستنتاج بأن الخلاف بين فريقي المشهد السياسي الإيراني لم يكن يوماً على مضمون اتفاق جنيف، الذي ما كان ليتحقق لولا غطاء المرشد علي خامنئي. والدليل أن اتفاقاً بالمضمون نفسه قد تم التوصل إليه في أوج حكم الأصوليين. في النهاية، إيران ليست بحاجة إلى هذه الكمية من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة. بل إنها أصلاً قامت بعملية التخصيب من أساسها لأن الغرب رفض أن يعطيها الوقود النووي الذي تحتاج إليه لمفاعل طهران الطبي، الذي ينتهي عمره الافتراضي خلال فترة وجيزة. ولعل البند الوحيد الذي يمكن أن يُفسّر إيرانياً بصورة سلبية، هو ذاك الذي يقول بأن أي تخصيب في المستقبل يجب أن يكون بالتفاهم بين الطرفين، أي إيران ومجموعة «5 + 1». وحتى هذا البند، يؤكد المعنيون أنه لن يكون مشكلة، لسبب بسيط وهو أن إيران لن تطلب تخصيب كميات أكبر بكثير من حاجتها وأن الغرب لا يستطيع أن يرفض طلباً كهذا كونه (أي الطلب) منطقياً ليس بإمكان الخبراء دحضه.

بنود الخلاف: الأفق والنهج والتوظيف

يبدو فريق روحاني أكثر تفاؤلاً من الفريق الآخر بإمكان أن تصل المفاوضات مع أميركا إلى نهايات سعيدة. بل إنه أقام استراتيجيته التفاوضية كلها على هذا التفاؤل، وخلفيته، أن لا مشكلة جوهرية للعم سام مع إيران، بل إن إيران هي من كان لها مشكلة مع أميركا. وبالتالي فإن مجرد الانفتاح والجلوس إلى طاولة واحدة سيزيل كل الشكوك بين الطرفين ويحل الأمور العالقة كلها.
حديث المرشد عن «أننا نتفاوض مع هذا الشیطان للخلاص من شره» لا يخرج عن هذا السياق. كذلك بالنسبة إلى قوله إن «إحدى ثمار المفاوضات الأخيرة هي انكشاف عداء أميركا لإيران وشعبها والإسلام والمسلمين. لقد اعترفوا بأنهم لو استطاعوا لفككوا الصناعة النووية الإيرانية كلها، لكنهم غير قادرين على ذلك».
كذلك يبدو واضحاً أن إدارة روحاني وضعت كل رهانها على اتفاق جنيف. هذا يجعلها أكثر مرونة وأكثر عرضة للابتزاز. فهي لا يمكن أن تسمح لهذا الاتفاق بأن يسقط، وهي مستعدة طبعاً لأن تفعل كل ما في استطاعتها للحؤول دون ذلك. من هنا يأتي تودّد الوزير ظريف المفرط للسعودية خلال جولته الخليجية الأخيرة. ومن هنا يمكن فهم كلام خامنئي، في الخطاب نفسه، عن «الإيمان الراسخ والبصيرة في القضايا الجارية وعدم التغافل عن العدو»، وعن أنه «لا شك في ضرورة الحضور الفاعل في الساحات الخارجية والدولية، إلا أن علينا عقد الأمل على الدعم والعون الإلهي والاعتماد على الطاقات الذاتية، لأن هذا الأمر هو الضمانة للبلاد».
لكن يظهر أن هناك من حول روحاني، من يريد استخدام الخلاف حول البعدين السابقين في معركة داخلية حامية الوطيس، مستغلاً في ذلك أمرين: فترة السماح التي أعطاها المرشد لروحاني وإدارته من أجل اختبار رؤيتهم السياسية، ومدتها سنة واحدة. والـ 18.6 مليون صوت التي فاز بها روحاني في انتخابات الرئاسة، والتي تعطي جماعته حجة القول بأنهم يتحركون بتفويض شعبي واسع.
صراع الحسم فيه لا يزال مبكراً. يحتاج إلى وقت لينضج. فترة ضرورية لاستبيان أي من الطرفين كان على صواب وأي منهما كان على خطأ، علماً بأن خامنئي سبق أن أعلن أكثر من مرة أنه غير متفائل بنتيجة هذا الحوار. وبانتظار ذلك، يستعد الأصوليون، بقيادة المرشحين السابقين الى انتخابات الرئاسة، غلام علي حداد عادل ومحمد باقر قاليباق وسعيد جليلي، إلى تشكيل جبهة جديدة لمواجهة نهج الإدارة الحالية.
قبل أيام، صعد أحد الركاب مع سائق تاكسي في طهران. سأله عن رأيه في ما يجري من تقارب مع الولايات المتحدة. جواب الرجل كان بسيطاً. قال «أنا لا أفهم بالسياسة، ولا أستطيع أن أفتي بهذا الشأن. لكنّي أعرف شيئاً واحداً هو أنه كلما اقتربت منّا أميركا حصلت مصيبة، وكلما ابتعدت عنّا ارتحنا».