«في المناسبة، إذا أردنا التحدّث مهنياً فقط، لا سياسياً ولا حتى أخلاقياً، فـ «العدالة المهنية» تقتضي أن تقسم القنوات المحلية الشاشة إلى نصفين. نصف من لاهاي، ونصف من الهرمل. الحدثان مهمان ولا يمكن تجاهلهما مهنياً». تعليق الإعلامي في إذاعة «صوت الشعب» فراس خليفة على صفحته على فايسبوك أمس عبّر بوضوح عن المأزق المهني (والأخلاقي أولاً) الذي واجهته القنوات المحلية في تعاطيها مع حدثين مهمّين: الأول انطلاق جلسات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي، والثاني التفجير الإرهابي الذي ضرب منطقة الهرمل في البقاع.
للوهلة الأولى، قد يجد المشاهد بعض الأعذار للمحطات اللبنانيّة بما أنّ مسرح التفجير الارهابي بعيد عن المركز هذه المرة. لكن لبنان لا يختصر بعاصمته، وحتّى اشعار آخر ما زالت الهرمل في لبنان، وأقرب إلى بيروت من هولندا.
لكن ذلك التقصير، أو التجاهل في التعاطي مع الجريمة، يعيد تسليط الضوء على حقيقة سافرة: تلك المنطقة، ككل مناطق «الأطراف» الأخرى التي تعاني من تهميش وإهمال مزمنين، لا تعد أولوية في سياسة الدولة التنموية والاجتماعية والاقتصادية، فهل انعكست تلك الحقيقة على الشاشات أمس؟ أم هو ضغط ذلك «الاستعراض الضخم» الذي يترقبه الرأي العام منذ زمن طويل، ويحمل اسم المحكمة الدوليّة؟ الرسالة الأقوى من غياب صور الهرمل لصالح نقل افتتاح جلسات لاهاي، كانت سياسية بامتياز، ولو أنّ بعض المحطات لم «تقصد» ربما ترك هذا الانطباع، بل جاء ذلك نتيجة ارتباك في التعامل مع الحدث. لكن هذا ما حصل وما رآه المشاهد. هكذا، عادت هذه المرة صور الجثث المتفحمة والدمار والجرحى والأبنية المحترقة (في جريمة اغتيال الحريري) من داخل القاعة النظيفة فوق ملعب كرة سلّة، في مبنى للمخابرات الهولنديّة في لاهاي. انقسمت شاشة «الجديد» لوهلة بين صور تفجير السان جورج شتاء ٢٠٠5، وصور تفجير الهرمل في هذه اللحظة. من يتهم من؟ ومن يقتل من فوق هذه الأرض الملعونة؟ وفي الخلفيّة صوت سعد الحريري مؤكداً على أن المطلوب «ليس الثأر بل العدالة» (ليته يقنع محطّته الزرقاء بهذه القيم النبيلة) فيما يطل اللواء جميل السيّد من لاهاي، ليذكّر أنّ المحكمة «أداة سياسية».
معظم القنوات اللبنانية كرّس بثّه أمس لنقل وقائع جلسات اليوم الأول في المحكمة الدولية، مكتفياً حتّى وقت متقدّم من النهار، بشريط أخبار عاجلة في أسفل الشاشة مخصص للقرية المنكوبة. «الجديد» وقنوات قليلة كما أسلفنا، قسمت شاشتها نصفين لمتابعة جلسات لاهاي، وتطورات تفجير الهرمل. هذا الاستثناء يؤكّد القاعدة: تغييب صورة على حساب صورة. وتفضيل جريمة على أخرى. «المستقبل» هلّلت لـ «زمن العدالة» الآتي من هولندا ولم تكترث بالهرمل، وعكسها فعلت nbn التي ركّزت على الهرمل. الـ «إيجابية» الوحيدة ربما يوم أمس، أننا لم نرَ جثثنا متفحّمة ومشوّهة ومرميةً على قارعة الطريق.