اليوم موعد انعقاد مؤتمر «جنيف 2». فما هي التوقعات التي يمكن للمرء أن ينتظرها من هذا المؤتمر الدولي الذي يحضره العالم كله تقريباً؟لا شك في أن نتائج المؤتمر تتوقف على مواقف الأطراف الأساسية الفاعلة فيه، وفي مقدمها الدولتان العظميان أميركا وروسيا. ولا نستطيع استشراف ما تريده هاتان الدولتان أو كل منهما من هذا المؤتمر ما لم نعرف بالضبط ما كانتا تريدانه من الأزمة السورية قبل ذلك:
أولاً، بالنسبة للولايات المتحدة: لقد عبرت واشنطن بصورة علنية وواضحة عما تريده من سوريا، عندما قام وزير خارجيتها كولن باول بزيارة دمشق عام 2003 ليعرض ما يمكن اعتباره شروط استسلام في أعقاب الغزو الأميريكي للعراق، وكانت على الشكل الآتي: وقف أي دعم أو تسهيلات للمقاومة العراقية.

ووقف أي دعم للمقاومة في لبنان. ووقف الدعم والتسهيلات لمنظمات المقاومة الفلسطينية وإبعادها عن سوريا. وقطع العلاقات مع إيران. وإخضاع برامج التسليح غير التقليدية للمراقبة الدولية.
وما من شك في أن هذه المطالب أو الشروط لم تكن تتضمن تغيير النظام ولا حتى إحداث تغييرات ديموقراطية في بنيته، بل هي بإيجاز وكما وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لاحقاً «مجرد تغيير في سلوك النظام»!
مع انفجار الأحداث في آذار 2011، وجدتها الولايات المتحدة فرصة سانحة لتحقيق أهدافها المشار إليها أعلاه عن طريق المسارعة إلى العمل على احتواء الحراك الشعبي بالدعم السياسي والإعلامي المباشر، وبالمساعدات المالية والتسليحية من قبل الدول الإقليمية السائرة في ركاب الأميركيين كقطر والسعودية، والتسهيلات اللوجستية في تركيا ولبنان والأردن ... والتوجه به من ساحة مقاومة النظام لطبيعته الاستبدادية الفاسدة التي ألحقت أضراراً كارثية بالشعب السوري، إلى ساحة سياساته العربية والإقليمية والدولية في الاتجاه الذي يخدم سياسة الولايات المتحدة ومصالحها.
وقد شكلت تصريحات برهان غليون (أول رئيس للمجلس الوطني للمعارضة) لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، بتاريخ 2 كانون الأول 2011، أول تعبير عن نجاح هذا الجهد الأميركي، حيث قدم أوراق اعتماد المعارضة السورية لواشنطن باعتبارها «ثورة» من أجل قطع علاقات سوريا مع إيران وحزب الله وحماس، والانتقال نحو المطالبة بالجولان عن طريق المفاوضات بمساعدة دول الغرب الصديقة!
وعلى هذا الأساس، راحت الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفائها في المنطقة، تعمل على تعزيز نفوذها داخل صفوف المعارضة السورية والحراكين الشعبي والمسلح، حتى بات سفيرها روبرت فورد المفوض السامي ذا صلاحيات مطلقة في إدارة شؤون هذه المعارضات، يعاونه في ذلك رئيس المخابرات السعودية الأمير بندر بن سلطان ومجموعة من الدبلوماسيين ورجال المخابرات السعوديين والقطريين والأتراك وغيرهم.
بهذا الانحراف السياسي، وبدلاً من سعي الثورة السورية الى إضعاف النظام عن طريق الفصل بينه وبين حلفائه، انقلب الأمر _ ولا سيما مع تصاعد التوتر المذهبي في سوريا _ إلى استعداء أولئك الحلفاء وإشعارهم بأن هدف الثورة هو الانتقال بسوريا من المعسكر المعروف باسم «المقاومة والممانعة» إلى معسكر «الاعتدال» الذي تقوده السعودية وترعاه الولايات المتحدة! وأن سقوط النظام بالتالي سيكون ضربة قاصمة موجهة للأطراف الأخرى في ذلك المعسكر، أي حزب الله وإيران، الأمر الذي انتقل بهاتين القوتين من موقف التأييد للنظام إلى موقع الانخراط المباشر في حربه ضد الثورة.
لقد حققت الولايات المتحدة بهذا الانحراف في مسار الثورة السورية أهم هدف لها في سوريا، وهو تسيير الأحداث الدموية فيها باتجاه إضعافها كدولة وجيش ومجتمع وكيان وطني ... سواء سقط النظام أو لم يسقط. وإن أية مراجعة للتعامل الأميركي مع سوريا ومع الثورة والمعارضة تكشف أن كل ما فعلته الولايات المتحدة كان يصب في هذا السياق. الأمر الذي بلغ ذروة انكشافه في صفقة السلاح الكيميائي! إذ بدا واضحاً أن تجريد سوريا من أي قدرة على تهديد إسرائيل أو تشكيل خطر على أمنها هو الهدف الأسمى للسياسة الأميركية تجاه سوريا وتجاه الثورة فيها.
وما من شك في أن نظرة على الأوضاع الحالية تؤكد أن هذا الهدف الأميركي الأساسي قد تحقق، وبالتالي لم يعد موضوع إسقاط النظام أو عدم إسقاطه يغيّر من الأمر شيئاً بالنسبة لواشنطن. وخاصة بعدما وصلت الأحداث إلى حال من التوازن بين عجزين: عجز النظام عن استعادة سيطرته على البلاد بكاملها، وعجز المعارضة المسلحة عن إسقاط النظام، بل ربما يكون تطاول الأحداث بشكلها الحالي مدخلاً إلى تحول سوريا كلها إلى دولة فاشلة تشكل مرتعاً للتنظيمات الجهادية المسلحة غير القابلة للاحتواء أو الضبط، الأمر الذي يهدد استقرار دول الجوار كلها، بما في ذلك إسرائيل. فينقلب السحر على الساحر.
من هنا، يمكن القول بقدر لا بأس به من الثقة إن الولايات المتحدة باتت الآن صاحبة مصلحة في التوصل إلى حل للأزمة السورية يحول دون تحول سوريا إلى دولة فاشلة مع عدم التفريط بالمكاسب التي تحققت لواشنطن حتى الآن. ولا سيّما إذا كان هذا الحل يضمن نوعاً من المشاركة في النظام «القديم _ الجديد» لمن أصبحوا جماعتها في المعارضة!
ثانياً، بالنسبة لروسيا: لقد وجدت روسيا المستجدة القوة (مالياً وسياسياً وعسكرياً) في الأزمة السورية فرصة نادرة لاستعادة مرتبتها الدولية التي سبق أن انهارت إلى الحضيض مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وكان مجلس الأمن الدولي هو الساحة المثلى لتحقيق هذا الغرض على المستوى الدبلوماسي، بالتعاون مع الصين وبدعم واسع من مجموعة دول «البريكس».
لكنها في الوقت نفسه وجدت أن انهيار النظام السوري الحالي ووقوع سوريا في قبضة الولايات المتحدة سيمكنان أميركا من تجديد مسعاها لإقامة «شرق أوسط جديد» يمتد من أعالي النيل إلى عمق آسيا الوسطى، ومن استكمال بناء الكماشة حول العنق الروسي ما بين أوروبا الشرقية ودول البلطيق في الغرب والشمال، وهذا «الشرق الأوسط الأميركي» في الجنوب والشرق.
في مواجهة هذا الخطر، كانت مسارعة موسكو لرفد دعمها الدبلوماسي للنظام السوري بدعم عسكري غير محدود وصل التعبير عنه في كثير من الأحيان إلى مستوى الدفاع عن الأمن القومي الروسي نفسه. وهذا أمر أكبر بكثير مما كان يراه البعض كدفاع عن القاعدة البحرية في طرطوس أو بعض المصالح الحيوية الأخرى التي لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الجهد الذي بذله الروس في المعركة السورية على مدى السنوات الثلاث الماضية.
أكثر من ذلك، لم يحقق الروس بهذا الدعم نفوذاً لهم غير مسبوق في سوريا وحسب، بل كذلك لدى حلفاء النظام السوري، وبالذات في إيران ذات الأهمية الكبيرة على امتداد الإقليم الشرق أوسطي والتي باتت حليفاً قوياً لموسكو.
وإذا كانت روسيا، مثلها مثل أميركا، تدرك طبيعة «توازن العجز» المسيطر على الأوضاع العسكرية في سوريا الآن، فإنها تدرك كذلك أن أي تسوية حالية معتمدة على معطيات هذا التوازن سوف تبقي للنظام الحالي (وبالتالي لموسكو) حصة لا بأس بها في الإدارة السورية الجديدة ... في حين أنّ تحوّل سوريا إلى دولة فاشلة ومرتع للتنظيمات الجهادية المسلحة، لا يحرم موسكو من هذه الحصة فحسب، بل يخلق وضعاً مهدداً لأمن الدولة الروسية في عقر دارها عن طريق تصدير المجاهدين الذين سيسرحون ويمرحون على امتداد الإقليم، انطلاقاً من الأراضي السورية والعراقية واللبنانية وغيرها.
على ضوء هذه القراءة، نجد أن ثمة مصلحة أميركية _ روسية مشتركة في التوصل إلى تسوية للأزمة السورية الآن. وهذا ما يوضح أسباب التحرك المشترك والكثيف من قبلهما للعمل على إنجاح مؤتمر «جنيف 2» الذي سينعقد على أساس وثيقة «جنيف 1» الصادرة بتاريخ 30 حزيران 2012، واستناداً إلى قرار مجلس الأمن رقم 2118 بتاريخ 27 أيلول 2013.
بالنظر إلى طبيعة هذين الأساسين، نجد أن ثمة مساحة لكل منهما لتحقيق أهدافه ومصالحه المشار إليها أعلاه، من خلال «إنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، وتتشكل على أساس التوافق»، كما ورد نصاً في الفقرة السادسة عشرة من قرار مجلس الأمن رقم 2118.
لكن، هل يكفي توافق الدولتين العظميين على صيغة ما للدخول في الحل السياسي كي يتحقق ذلك الحل؟
بالتأكيد لا ... رغم الأهمية الفائقة لذلك التوافق الذي يظل شرطاً ضرورياً لأي حل.
فثمة أطراف أخرى في الأزمة لها تأثير كبير على مجراها. وحتى في حال استثناء الأطراف العربية والإقليمية الفاعلة في الأزمة _ وحتى الدولية غير الدولتين العظميين _ باعتبارها أطرافاً لا يمكنها الخروج من تحت مظلة القرار الدولي الكبير، تبقى الأطراف المحلية الفاعلة على الأرض (النظام والمعارضة) وهي أطراف يتوقف الكثير على مدى تجاوبها أو عدم تجاوبها مع الموقف الدولي واستجابتها أو عدم استجابتها لما يمكن أن يترجم من معطيات ذلك الموقف خلال المؤتمر، وخاصة أن المواقف المعلنة للطرفين المحليين لا تزال مستقرة وراء «إصرار المعارضة على إسقاط النظام بكل مكوناته ورموزه، وعلى الأقل إقصاء الرئيس الأسد وكل من تلوثت أيديهم بالدماء»، وإصرار النظام على «أنه لن يذهب إلى جنيف لتسليم السلطة، بل لحض المؤتمر على محاربة الإرهاب باعتبار أن من يواجههم على الأرض السورية ما هم إلا عصابات من الإرهابيين»!
صحيح أن لموسكو نفوذاً تعاظم بصورة كبيرة خلال الأحداث لدى أصحاب القرار في دمشق. وصحيح أيضاً أن لواشنطن نفوذاً كبيراً لدى معظم أطراف المعارضة والتنظيمات المسلحة المقاتلة في سوريا.
لكن، هل تستطيع الدولتان العظميان استخدام هذين النفوذين لفرض موقفيهما على الطرفين المحليين؟ وهل هذان الطرفان المحليان هما مجرد طرفين أم أن كلاً منهما يتشكل من أطراف متعددة ومتنافرة المصالح والتوجهات؟
هذان السؤالان هما اللذان جعلا وزيري الخارجية الأميركي والروسي يعلنان في مؤتمرهما الصحافي المشترك بتاريخ 13 كانون الثاني 2014 أنهما لن يفرضا شيئاً على المؤتمرين بل سيتركان لهم حرية التفاوض من أجل التوصل إلى حل!
هذا ما يبدو على سطح المعطيات الآن.
لكن، إذا ما كان شعور كل من الدولتين العظميين بخطورة استمرار الأزمة السورية وتطاولها على مصالحهما الحيوية وأمنهما القومي حقيقياً (وهذا ما نميل إلى الاقتناع به)، فإن الأمر سيختلف دون شك. ثمة أزرار كثيرة في متناول أيديهما يمكن الضغط عليها في لحظة ما لفرض إرادتيهما على الأطراف المتنازعة. ومن غير المستبعد أن امتداد الأزمة على مدى السنوات الثلاث الماضية كان في جانب منه وقتاً متاحاً للدولتين العظميين من أجل الإمساك بأكبر قدر من خيوط اللعبة على الساحة السورية، فمن المؤكد أنه لم يكن لواشنطن في بداية الأزمة ما لها الآن من حضور ونفوذ بنته حجراً وراء حجر في صفوف المعارضة السورية، ولا كان لموسكو ما لها الآن من نفوذ وتغلغل ودالة في أوساط النظام السوري الحالي ومؤسسته العسكرية صاحبة الدور الأول في القرار حالياً في دمشق.
على ضوء كل ما تقدم، نعتقد أن المؤتمر سيمر في مرحلتين قد تفصل بينهما مسافة زمنية تطول أو تقصر تبعاً للتطورات:
المرحلة الأولى: هي ترك الأمور للطرفين المتفاوضين كي يعرض كل منهما مواقفه وشروطه ومطالبه ورؤاه. وهي مرحلة ستكون استكشافية بالنسبة للأطراف الدولية عامة والدولتين العظميين خاصة.
المرحلة الثانية: بعد أن يستخدم فيها كل من الطرفين أقصى ما بين يديه من أوراق قوة بهدف تحقيق أقصى ما يستطيع من تغيير في الموقف على الأرض لصالحه، يجري تعريض الطرفين لنماذج من الضغوط الدولية الفاعلة: الضغط الروسي على النظام امتداداً من الموقف الدبلوماسي في مجلس الأمن إلى التحكم بتوريد الأسلحة والتأثير في الموقف العسكري على الأرض. والضغط الأميركي لتجفيف مصادر التمويل والتسليح وإغلاق المنافذ الخارجية أمام أطراف المعارضة السياسية والعسكرية، وصولاً في النهاية إلى تطويعهما تطويعاً كافياً لجلبهما مرة أخرى إلى جنيف أو مونترو للتوصل إلى حل يتنازل فيه الطرفان عن مقدار كبير مما يعلنان الآن أنه ثوابت لا يمكن التنازل عنها.
وآنذاك، يكون الحل بالاتفاق فعلاً على «إنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية» مدعومة بقرار ملزم يتم اتخاذه في مجلس الأمن تحت الفصل السابع، بشكل يضع سوريا كلها تحت وصاية الأمم المتحدة لبناء نظامها السياسي من جديد، وفقاً لمواصفات دولية معينة لا تعود بموجبها تشكل خطراً على إسرائيل أو تهديداً لها، كما أنها لا تشكل بالمقابل مرتعاً للتنظيمات الجهادية المسلحة، أو موضعاً للانفراد (الأميركي أو الروسي) بموقعها الاستراتيجي الهام جداً بالنسبة لكليهما، بل ساحة تعاون وتقاسم نفوذ دولي بينهما إلى فترة غير قصيرة قادمة.
وهكذا تحقق الدولتان العظميان مصالحهما في بلادنا. أما الذين قضوا في هذه المجزرة المستمرة منذ ثلاث سنوات فلأرواحهم الرحمة ... فقط!
* كاتب سوري ـــ فرنسا