لم يترك سعد الحريري لـ«الصلح مطرح». إفادته التي أدلى بها أمام لجنة التحقيق الدولية يوم 30 تموز 2007، والتي بثت قناة الجديد مقاطع بارزة منها أمس، كشفت الكثير مما كان يفكر فيه رئيس أكبر كتلة نيابية في ذلك الحين. وجّه سهامه نحو خصومه في لبنان وسوريا، من دون أن يوفّر بعض حلفائه وأصدقائه، وصولاً إلى أحد النواب المنتمين إلى كتلته النيابية. في بداية جلسة الاستماع، يكشف المحقق أن الرئيس الراحل رفيق الحريري كان قد أجرى اتصالاً هاتفياً باللواء الركن جميل السيد
، بعد استقالته من رئاسة الحكومة خريف عام 2004، ليسأله عن رأيه (السيد) في بيان الاستقالة. ثم ينتقل الحريري الى توزيع الإهانات: يقول إن علاقة والده بناشر صحيفة السفير، طلال سلمان، كانت «علاقة ابتزاز. بمعنى إذا لم تعطني المال، فسأفجّر كل شيء في وجهك، وأنشر كل ما يتوافر ضدك. طلال كان مقرباً جداً من جميل السيد، كان صديقه، وفي الوقت نفسه، السوريون كانوا عندما يريدون من والدي أن يساعد أحداً، كان رستم يأتي ويقول: رفيق، طلال بحاجة إلى مساعدتك، وعليك أن تدفع له بعض المال لأنّ جريدته مفلسة. السفير كانت من أقسى الصحف عليه منذ عام 1992. لكن طلال كان من النوع الذي إذا دفعت له مالاً يكتب عنك بطريقة جيدة. تماماً كما شارل أيوب. شارل أيوب كان أسوأ. شارل أيوب عاهر».
وبعد أن يشبّه الحريري «الحملات الإعلامية» التي يتعرض لها بالحملة التي تعرض لها والده قبل اغتياله، ينتقل الى الحديث عن سوريا والعلاقة بين والده والقيادة السورية. يقول رئيس حكومة تصريف الأعمال إن والده أراد بناء علاقة جيدة مع الرئيس السوري بشار الأسد. وفي الفترة الأولى، كانت الأمور تجري على ما يرام. «لكن على ما أعتقد، (ساءت العلاقة) بسبب التقارير التي كانت تُرفع من جميل السيد ومن إميل لحود ومن أمثال ناصر قنديل، الذين يكرهون والدي، إضافةً إلى حزب الله ونبيه بري، الذين لم يكونوا يريدون لهذه العلاقة أن تتحسّن، وكانوا يريدون ألّا يتقارب الحريري وبشار الأسد. وهذه كانت أيضاً مصلحة آصف شوكت، الذي كان يرى في والدي تهديداً أمنياً واستراتيجياً لسوريا. لأنّ والدي، عندما كنت أذهب معه إلى سوريا، كان الناس يلوّحون له في الشارع، وهذا الأمر يمثل تهديداً للسوريين، وخاصةً مع رئيس وزراء سني». ثم ينتقل الحريري إلى تقديم تحليل نفسي لشخصية الرئيس السوري بشار الأسد. يقول: «بدأت أشعر بأنّ لدى بشار الأسد مشكلة. عندما كنت أذهب إلى سوريا، لم أعد تقريباً أرى صور والده. صرت أشعر بأن لديه شيئاً ما ضد والديه». وتصل الإفادة إلى ذروتها عندما يصف الرئيس السوري بـ«الغبي»: كما تعلم، عندما وصل إلى الرئاسة كان عمره 34 عاماً، وعندما حضر أول قمة عربية، أعطى محاضرة للرؤساء والملوك الموجودين في مناصبهم منذ أكثر من 15 عاماً. استفزّني. لأنك يا غبيّ أقلّ ما تستطيع فعله هو ألّا تعطي الرؤساء محاضرة في القومية. كان يريد إثبات ذاته، لكنه لم يفعل ذلك بطريقة إيجابية».
وفي معظم أجزاء الإفادة، تظهر ضحالة المعلومات التي يملكها الحريري. فمعظم المعلومات التي يقدمها، منقولة عن أشخاص، أبرزهم تيري رود لارسن وجاك شيراك. يقول الحريري إن لارسن أخبره بأنه سبق له أن أخبر والده قبل يومين من اغتياله بأنه شعر بأن السوريين يريدون اغتياله: «تيري رود لارسن أخبرني أنه قال لوالدي: سيغتالونك. شعر بشيء ما. كان في دمشق وأتى لمقابلة والدي يوم السبت. كان يريد أن يغادر لبنان، فطلب والدي مقابلته، وسأله: هل أنت جدّي في ما قلته. فأجابه لارسن: نعم، هذا ما شعرت به».
وفي إفادته، يركّز الحريري على شخصية العماد آصف شوكت، قائلاً إنه كان يكره والده، «وكل المشاكل التي حصلت لنا كانت بسببه». يضيف الحريري إنه، عندما ذهب مع والده لتقديم التعازي إلى عائلة الرئيس حافظ الأسد (عام 2000)، التقيا آصف شوكت خارجاً من المنزل، «فقال مصطفى طلاس لوالدي: الله يستر سوريا من هذا الرجل». ثم يصف آصف شوكت بـ«السفّاح. أعرف ذلك ليس فقط مما سمعته من لبنان، لكن أيضاً من أشخاص تعاملوا معه في الاستخبارات، مثلاً تعلم ما يقوله السعوديون عنه، إنهم يقولون إنه مثل محمد بن نايف».
وبعد أن يخبر الحريري المحققين بأن والده كان يثق بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وكان «يرى أن بإمكانه العمل معه، وأن يعقد اتفاقاً معه، وكان يعتقد أن حسن نصر الله رجل يلتزم بكلمته، وهذا ما لا أعرفه أنا»، ينتقل الى الحديث عن الرئيس نجيب ميقاتي، قائلاً: «أنا أتيت بنجيب إلى رئاسة الحكومة، ومن ثم حاول طعني في ظهري. أنا لا أحب من يطعنني في ظهري. أمّا الوليد بن طلال، فكانت «علاقة والدي به جيدة، وفجأةً تغيّر كل شيء. كنا نخشى أن تكون الحكومة السعودية تحاول إرسال رسائل إلى والدي، إلى أن أعلنت الحكومة السعودية عبر الديوان الملكي أنّ مواقف الوليد بن طلال لا تمثل وجهة النظر الرسمية للسعودية أو للسياسة السعودية، لأن الأمير الوليد لم يكفّ عن إهانة والدي. أظن أن الوليد أراد أن يصبح رئيساً للوزراء في لبنان، وهو استحصل على الجنسية اللبنانية، ولم أفهم لماذا».
ورداً على سؤال عما إذا كان يشكّ في وجود أشخاص كانوا يتجسسون على والده، قال الحريري إنّ الصحافي سمير منصور كان «يكتب تقارير لجميل السيد عن الأشخاص الذي يأتون إلى القصر. وإذا أردت أن أشك في أحد، فسأشكّ في شخص كنهاد المشنوق. (...). و(العميد) عباس إبراهيم كان يعمل ضمن الفريق الأمني، وكان يظهر عداءً لنا، لكنه يعلم كيف يعمل فريقنا الأمني. وعلي الحاج، أنت تعلم قصته». ويتهم الحريري في إفادته اللواء رستم غزالي بابتزاز والده، واصفاً إياه بـ«الحقير»، مشيراً إلى أن غزالي هدد الوزير السابق باسم السبع إذ قال له: «لا تخف، لن نفعل بك ما فعلناه بمروان حمادة».
هذا في حلقة أمس. أما في اليوم الذي سبقه، فقد بثت قناة «الجديد» مقتطفات من تسجيل لجلسة عقدت في أيلول 2005 بين الحريري، والشاهد زهير الصديق والعقيد وسام الحسن والنائب السابق لرئيس لجنة التحقيق الدولية، غيرهارد ليمان، ويُظهر التسجيل أن العلاقة بين الحريري والحسن من جهة، والصدّيق من الجهة الأخرى، كانت متقدمة جداً. إذ كان الصدّيق يخاطب الحسن باسمه الأول، من دون أيّ ألقاب. أما الحريري، فكان الصدّيق يرفع صوته في وجهه من وقت لآخر، ويقاطعه. كذلك أظهر التسجيل أن الشاهد الملك كان على تواصل هاتفي مع الحريري قبل هذه الجلسة.
ما بثته قناة «الجديد» أكّد صحته المكتب الإعلامي للحريري، الذي وصفه بـ«العملية الاستخبارية»، وبدلاً من أن يبرر الحريري بعض ما ورد فيه، حاول الهجوم عبر طرح تساؤل عن كيفية تسريبه، وأغرب ما أعلنه الحريري كان أنّ لقاءه الصدّيق جاء بطلب من لجنة التحقيق الدولية، في إطار محاولة استدراج الصدّيق إلى لبنان! وفي بيان أصدره ليل أمس، أعلن الحريري اعتذاره الشخصي «من كل الأصدقاء الذين طاولهم حديثه» في إفادته أمام لجنة التحقيق عام 2007، مشيراً إلى اتصاله بكل من الوليد بن طلال والرئيس نجيب ميقاتي والنائب نهاد المشنوق والصحافي سمير منصور للاعتذار منهم.


التسجيلات الصوتية تحت المجهر



عمر نشابة
التسجيلات الصوتية التي بثّتها قناة الجديد أمس وأول من أمس جذبت انتباه المهتمين بالشؤون السياسية من جهة، والمتابعين للمسار القضائي من جهة ثانية.
إنّ نفي صحة التسجيلات واعتبارها مفبركة أو التأكيد على صدقيّتها وتوظيفها في تكوين موقف جديد، أو التأكيد على موقف سابق، أمر مشروع في البازار السياسي، أمّا في الإطار العدلي والقضائي المحلي والدولي، فالأمر يستدعي عملية تدقيق ممنهجة تتبعها عملية ربط خلاصات التسجيل، إذا صحّ، بملفّات تحقيقات جنائية جارية، وإجراءات ملاحقة بحسب ما تقتضيه قواعد العدالة.
ترتكز منهجية عملية التدقيق في التسجيلات الصوتية على الخطوات الآتية:
1 ـــــ تحديد الجهة صاحبة الاختصاص للتدقيق في صحّة التسجيلات، على أن تتمتّع بالاستقلالية والكفاءة والنزاهة، ويمكن أن تكون جهة قضائية أو لجنة تحقيق برلمانية، ويُستعان بخبراء محليين ودوليين في دراسة البصمات الصوتية.
2 ـــــ جمع التسجيلات التي بثّتها وسائل الإعلام بواسطة طلبات خطية صادرة عن الجهة القضائية المختصّة، ولا حاجة إلى الطلب من الوسائل الإعلامية تحديد مصدر التسجيلات. وللوسائل الإعلامية الحقّ في عدم تحديد مصدرها، لكن يُفترض أن تزوّد القضاء كامل التسجيلات لا فقط ما جرى بثّه.
3 ـــــ إجراء عملية مقارنة أولى بين ما بثته الوسيلة الإعلامية والتسجيل الكامل، ويُفترض ألّا يكون «المونتاج» الذي خضعت له التسجيلات قد غيّر من المعنى الأساسي لما قيل بحسب التسجيل الكامل.
4 ــ إجراء عملية مقارنة ثانية بين أصوات التسجيلات وأصوات الأشخاص أنفسهم في تسجيلات أخرى يجريها فريق التحقيق التقني، وتُقارَن النبرات الصوتية للتعرّف على البصمة الصوتية لكلّ من الذين سُمعوا في التسجيلات.
5 ـــــ يمكن التوسّع في التحقيقات التقنية من خلال التدقيق في الصوت لتحديد مكان وجود آلة التسجيل ونوعيتها وتاريخ التسجيل. فالكشف عن هوية الشخص الذي كان يحمل جهاز التسجيل قدّ يدلّ على أمور أخرى بالغة الأهمية بالنسبة إلى خلاصات التحقيق.
6ـــــ يمكن كذلك التوسّع في التحقيقات التقنية من خلال تعريب جميع الأصوات التي تُسمَع في التسجيلات، وتحديد مصادرها بطريقة قد تمكّن من تحديد مكان التسجيل.
وإذا كانت إدارة الــ«نيو تي في» قد دقّقت بطريقة مناسبة، فيفترض أيضاً أن يكون هناك تدقيق من جانب جهة تحقيق مستقلة.