التسويات تعقد إثر نزاعات داخلية، إما عبر مؤتمرات تعقدها الأطراف المحلية المتنازعة أو مؤتمرات يرعاها الخارج. في لبنان ما بعد 13 نيسان 1975، تم تجريب «حوارات في ميدان سباق الخيل» في بيروت في السبعينيات. لم تنجح، واللجوء بعدها في النصف الأول من الثمانينيات إلى «لوزان» و«جنيف»، وبعد عدم نجوعها هي و«الاتفاق الثلاثي» في نهاية عام 1985 في دمشق، كان «اتفاق الطائف» في خريف 1989 وصفة لتوافق واشنطن _ دمشق _ الرياض تم فرضها على متصارعين محليين لم يستطيعوا الاتفاق أو أن يتغلب أحدهم على الآخر.
في «اتفاق دايتون» عام 1995 في البوسنة، كان الوضع شبيهاً بلبنان.
في الأزمة السورية الناشبة منذ 18 آذار 2011 حتى الآن لم يستطع، أو يحاول المتنازعون المحليون التوصل إلى تسوية بعد فشل الجميع في الحسم العسكري. ليتمّ «التعريب» في خريف 2011 مع مبادرة الجامعة العربية في طبعتيها في تشرين الثاني 2011 وكانون الثاني 2012، والذي فشل مع «فيتو» 4 شباط 2012 الروسي _ الصيني ضد مبادرة الجامعة الثانية عندما حملت الأخيرة إلى نيويورك، وليعلن ذلك «الفيتو» عن تدويل الأزمة السورية وتجاوز السورنة والتعريب، وهو ما تجسد في بيان جنيف يوم 30 حزيران 2012، الذي أتى حصيلة لتوافق البيت الأبيض والكرملين مع غياب لافت للرياض وطهران يومها عن ذلك اللقاء الذي جرى في جنيف.
خلال ما ينوف على سنة ونصف تفصل بين «جنيف 1» و«جنيف 2» في 22 كانون الثاني 2014، تم تجريب «العنف المعارض»، الذي فشل، منذ تموز 2012 بشكل منهجي بتشجيع فرنسي _ تركي _ خليجي مع إغماض عيون واشنطن. في المقابل، لم تستطع السلطة السورية الحسم العسكري _ الأمني مع إسناد من موسكو وطهران. منذ يوم 7 أيار 2013، مع اتفاق كيري _ لافروف في موسكو، كان واضحاً أن هناك بداية عملية لتطبيق اتفاق «جنيف 1» الذي كانت ممراته العملية في اتفاق جنيف حول السلاح الكيميائي السوري (14 أيلول) واتفاق تنظيم الوجود الأميركي في أفغانستان حتى 2024 (20 تشرين الثاني)، ثم اتفاق جنيف حول الملف النووي الإيراني (24 تشرين الثاني). كان «جنيف 2»، الذي حدد موعده في 22 كانون الثاني في اليوم التالي للاتفاق الأميركي _ الإيراني، كشفا لكم أن التسوية السورية هي حصيلة توازنات دولية _ إقليمية لا يمكن فصلها عن تواريخ 7 أيار و14 أيلول و20 تشرين الثاني و24 تشرين الثاني2013، وليست بوصفها حصيلة للتوازنات السورية المحلية.
«جنيف 2» هو «يالطا 2»، ما دام الشرق الأوسط منذ «اتفاق يالطا» في شباط 1945، قد ترك من قبل القوى العظمى ساحة مفتوحة للصراع، وقد كان هذا واضحاً منذ «مشروع أيزنهاور» (5 كانون الثاني 1957) الذي طرحه الرئيس الأميركي لـ«ملء الفراغ» البريطاني _ الفرنسي بعدما أظهرت حرب السويس قبل شهرين أفول شمس لندن وباريس. تلك الحرب التي تعاونت واشنطن وموسكو على إفشال خطط أنطوني ايدن وغي موليه فيها. بين 1957 وحرب حزيران 1967، كان هناك «حرب باردة» في الشرق الأوسط بالنيابة عن واشنطن وموسكو في «عراق عبد الكريم قاسم»، الذي كان الانقلاب البعثي عليه وعلى حلفائه الشيوعيين يوم 8 شباط 1963 مدعوماً من واشنطن، وفي حرب اليمن، ثم قامت تل أبيب بتوجيه ضربة كبرى ضد موسكو، رداً على فييتنام، عبر ضرب عبد الناصر في حرب 1967، وهو ما كان إرهاصاً بفقدان موسكو لقوتها في الشرق الأوسط بفترة السبعينيات، ثم باختلال التوازن الدولي في الثمانينيات عبر الحرب الأفغانية و«حرب النجوم»، ومن ثم سقوط «حلف وارسو» عام 1989 و«البناء السوفياتي الداخلي» في1991. لم يكن صدفة محاولة واشنطن بعد انتصارها على موسكو في الحرب الباردة أن تحاول ابتلاع الشرق الأوسط منفردة عبر محطات حرب 1991 وتسوية مؤتمر مدريد، ثم عبر احتلال العراق، الذي طرحه وزير الخارجية الأميركي كولن باول بوصفه بوابة بغدادية لـ«إعادة صياغة الشرق الأوسط». لم تنجح واشنطن في هذا، وقد بان في فترة 2006 - 2010 مقدار تراجع مشروعها عبر محطات «حرب تموز» وغزة و7 أيار 2008 في بيروت، وانحياز المالكي لطهران في عام2010 بعدما كان «شركة مساهمة أميركية _ إيرانية» منذ توليه منصبه في أيار 2006، ثم سقوط حكومة الحريري في لبنان في الشهر الأول لعام 2011. حاولت واشنطن ترميم نفوذها عبر المركب الإسلامي الإخواني مع «الربيع العربي» في عامي 2011 - 2012 وفشلت.
كان اتفاق 7 أيار 2013 إقراراً أميركياً بفشل محاولة الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، وإبداء استعداد واشنطن لعقد يالطا شرق أوسطية: كان اتفاقها مع موسكو في 7 أيار و14 أيلول تعبيراً عن إقرارها بأولوية روسيا في سوريا، وليس صدفة أن تكون كلمة لافروف في «جنيف 2» قبل كلمة كيري، ولا تلك العقود الضخمة حول الغاز والنفط التي عقدتها موسكو مع دمشق قبيل قليل من «جنيف 2». بالمقابل، يدل اتفاق 24 تشرين الثاني 2013 مع طهران، الذي تم فيه مقايضة تفكيك النووي الإيراني باعتراف أميركي بأولوية طهران في بغداد، على أن واشنطن تريد تنظيم خروجها من الشرق الأوسط لكي يتم التركيز عندها على الشرق الأقصى لمواجهة العملاق الصيني السريع النمو، مع بقاء واشنطن في المنصة الأفغانية المحاذية للصين، عبر اعتراف بنفوذ موسكو وطهران في المنطقة، وربما أيضاً مع اعتراف أميركي بنفوذ السعودية في المنطقة الممتدة من الكويت إلى صنعاء. وهو ما يفسر طرح الرياض لفكرة الاتحاد الخليجي بعد فترة قصيرة من الاتفاق الأميركي _ الإيراني.
قبل أشهر، قال الأخضر الإبراهيمي إنّ «جنيف 2» هو «حصيلة توازنات غير سورية». على الأرجح أن مشاركة السعودية في المؤتمر تدل على دخولها في الصفقة الروسية _ الأميركية حول المنطقة، وما بوادر تساهل الحوثيين في الاتفاق اليمني الأخير سوى بوادر لتقاربات مع الرياض من قبل طهران ردّت عليها الأخيرة في بيروت عبر بوادر لتسهيل تشكيل حكومة تمام سلام، فيما تريد واشنطن من الكباش الذي تقوم به مع طهران تجاه مشاركتها في «جنيف 2» تحديد السلوك الإيراني في التسوية السورية.
على ما يبدو أن «جنيف 2» هو منصة سورية لصفقة دولية _ إقليمية تشمل المنطقة الممتدة من كابول إلى الرباط، ومن اسطنبول إلى عدن، يتم عبره تسوية أزمة محلية تحولت إلى أكبر ساحة للصراع الدولي والإقليمي في فترة ما بعد الحرب الباردة، وليتم عبرها رسم خرائط النفوذ الدولي _ الإقليمي في عموم منطقة الشرق وفي كل بلد على حدة، تماماً كما كانت يالطا عام 1945 في تحديدها لخرائط النفوذ السوفياتي _ الأميركي في بلدان القارة الأوروبية. على ما يظهر هي صفقة أميركية _ روسية _ إيرانية _ سعودية، مع استبعاد الأتراك والأوروبيين، ومع تحجيم باتفاق رباعي للمدّ الذي عاشه التيار الإسلامي منذ السبعينيات في عموم منطقة الشرق الأوسط.
* كاتب سوري