الأسبوع الماضي، كتبت مريم صالح (1985) على صفحتها على فايسبوك «نصف مليون شُكر»، لا خطأ في الرقم الذي يشير إلى حجم جمهور الفنانة الشابة، ويشير بالتالي إلى رحلة طويلة قطعتها مذ كانت ابنة هاوية للمخرج المسرحي صالح سعد، الذي رحل في حريق «مسرح بني سويف» الشهير عام 2005، إلى أن صارت الشابة التي تخاطب جمهورها نصف المليوني، بالشكر وبالغناء، والأهم، بدربها الخاص في الفن والموسيقى. رحلة لم تستبدل فيها اسمها فحسب، من مريم صالح إلى مريم بركة، وصولاً إلى «مريم» فقط، بل استبدلت أيضاً الكثير من محطات الموسيقى، ألحانها وآلاتها، إلى أن أمسكت بصوتها الخاص. ومثل كثيرين من أبناء/ بنات جيلها المنسوبين إلى ما يعرف بالفن المستقل، انطلقت مريم من غناء التراث «الشيخ إمامي»، وخصوصاً أنها كانت ـ بحكم اهتمامات عائلتها ـ إحدى تلميذات إمام نفسه، لكنها سرعان ما التقطت نفسها الخاص، الذي وجدته في مزيج من الروك في الأساس، وبعض اللمحات الشرقية، والكلمات المحكية الشديدة المحلية. صنع ذلك ـ برفقة صوتها الحادّ ـ مزيجها القوي الذي قد يبدو حتى صارخاً، قادماً من أقصى مكان، «أنا مش بغنّي» تقول في أغنيتها الأشهر من كلمات ميدو زهير، كأنما تعبّر عن ذاتها ومشروعها «أنا مش بقول/ أنا مش بنام/ أنا مش بقوم/ أنا بالأخص/ وع العموم/ أنا أي حاجة/ وكل يوم».
درجة التوتر هذه، بين الفعل واللافعل، بين الكلام والغناء، والصمت والغيتار الكهربائي، الصرخة التي تنطق بنصف كلمات «أنا نصّ نص/ أنا بذرة بذرة /وفص وفصّ»، تبدو كرغبة في التعبير عن مسافة مخفية، بين درجتي سلّم موسيقيّ، تتنقل بينهما «أنا وحدي وحدي/ وناس وناس/ ولسة لسة خلاص/ وماليش نهاية / ومش هدوم».
لماذا يُستدل بهذه الكلمات، وللشاعر زهير، على مشروع مريم؟ ليس لأنّها اختارتها عنواناً لألبومها الوحيد «مش بغنيّ» فحسب، بل أيضاً لأنّ هذه الكلمات المقسّمة لم تكن لتكتسب معناها المرجو في الغناء، لولا اللحن الذي وضعته لها مريم، وهذا ملمح آخر من تجربتها.
بعد مرحلتها الـ «إمامية»، وأبرز محطاتها «شرفت يا نيكسون بابا»، وكذلك بعد أغنيتها الشهيرة (من كلمات ميدو زهير أيضاً) «وطن العك»، المعتمد بالأساس على تيمة وهابية «كروان الفن وبلبله» كانت بدورها تنويعة ساخرة على «مضناك جفاه مرقده»، صارت مريم واحدة من فنانات شابات، كسرن الاحتكار الذكوري التاريخي في التلحين، منهن يسرا الهواري وفيروز كراوية، ودينا الوديدي، التي شاركت مريم إحدى أجمل تجاربهما معاً وهي أغنية «العُرس»: احجل بعيد يا موت/ بعيد عن الناس والبيوت/ لسّاها الحياة يا دوب/ بتدب في عروق مولودي». قدمت مريم اللحن تلو الآخر، منه لحنها المصوّر في كليب «طول الطريق» من كلمات ميدو زهير، الذي كتب لها كذلك «إصلاحات» (2010). كانت الأخيرة نقطة تحول موسيقية أخرى عبر تعاون مريم مع زيد حمدان. أنتج وأخرج حمدان لمريم كليب «إصلاحات»، لكن الأهم أنه أضاف إلى مشروعها خبرته في الموسيقى الإلكترونية التي لم تقتصر على أغنية «إصلاحات» نفسها، بل طاولت أيضاً لمسة حمدان تناول مريم لأغنيات الشيخ إمام، فمنحها «بُعداً» إلكترونياً، قد يستساغ أو لا يستساغ، لكنه يبقى مميزاً. وبالعودة إلى ميدو زهير، فهو، وإن بقي مهيمناً على التجربة الشعرية لأغنيات مريم، إلا أن ثمة اختراقاً لشاعر آخر هو مصطفى إبراهيم، الذي غنت مريم من كلماته «حصر مصر»، من ألحانها أيضاً. أما أغنية مصطفى الأخرى «سرعة الأيام»، فلحّنها الفنان الفلسطيني تامر أبوغزالة، مما يعدّ أيضاً اختراقاً وحيداً لهيمنة مريم على ألحانها.
في رحلتها للتعرّف إلى صوتها الخاص، خاضت مريم تجارب متنوعة ومتباينة في فرق «حبايبنا» و«الطمي» و«الورشة» وصولاً إلى تأسيس فرقتها «بركة»، ومشاركتها في العديد من التجارب السينمائية المستقلة، أبرزها «عين شمس» لإبراهيم البطوط، ثم أداؤها دوراً تلفزيونياً غنائياً في مسلسل «فرح ليلى» العام الماضي. لم يكن طريقها سهلاً، إنسانياً ولا فنياً، لكنها، تستطيع اليوم أن توجه التحية إلى نصف مليون مشترك على فايسبوك، وأن تعتز ـ في آونة واحدة ـ بأنّها قدمت تجربتها الخاصة.