منال العاصي، التي لا تزال صور سحلها على يدي زوجها شفافة أمام أعيننا، سبقت بطيفها طيف رولا يعقوب، التي كانت أمس عنوان مؤتمر اللقاء الوطني للقضاء على التمييز ضد المرأة. هكذا، كان الغضب مضاعفاً. غضب على مسلسل من الموت لا ينتهي، بفعل سلطة الذكورة المستمدة من سلطات أخرى دينية واجتماعية وسياسية. هذه السلطات التي عملت جاهدة على تعرية قانون «حماية النساء من العنف الأسري» من مضمونه، إنصافاً للقاتل ـــ الذكر.
لكنْ، ثمة فارق بين الموتين، فمنال العاصي المقتولة لتوّها، قد لا يضيع حقها كما يحصل اليوم في قضية يعقوب، بوجود تقريرين طبيين موقّعين من الطبيب الشرعي، الذي عاين الضحية قبل الوفاة وبعدها، يثبتان أنها قتلت نتيجة الضرب المبرح. اعترافات رسمية قد تعيد بعض حق منال، التي سحلت وحرقت وعذبت أمام عائلتها ... اللهم إلا إذا تدخلت السلطات الآنفة الذكر في قضيتها، كما فعلت بقضية يعقوب التي من المفترض أن تبتّ الهيئة الاتهامية الأسبوع المقبل مصير طلب الاستئناف الذي تقدمت به عائلتها.
أمس، على طاولة اللقاء، حضر الكثير من الأسئلة التي سقطت ـــ عمداً؟ ـــ من حسابات قاضي الظن آلاء الخطيب، والتي تسبب غياب الإجابة عنها بمنع المحاكمة عن المدعى عليه، زوج رولا يعقوب. بعيارة أخرى: تبرئته. تلك البراءة التي لا يعود لها قيمة تذكر أمام جملة أسئلة تغاضى عنها التحقيق، بدءاً من «الاعتراف، وصولاً إلى القرائن»، تقول عضو مكتب اللقاء الوطني المحامية وفيقة منصور الدويري.
فلنبدأ من الاعتراف، ثمة أسئلة طرحها اللقاء أمس، وتحتاج إلى الإجابة، وهي في ذمة قاضي التحقيق. وهي نفسها التي ستكون في ذمة الهيئة الاتهامية. فهل، مثلاً، أخذ قاضي التحقيق باعتراف «الزوج المتهم بأنه ضرب زوجته ضرباً خفيفاً بالعصا قبل 3 أيام من موتها»؟
أما بالنسبة إلى الشهود، فلماذا اكتفى القاضي بشهادتي عابري سبيل؟ علماً بأن هناك الكثير من الشهود «غير العابرين» في القضية، نذكر مثلاً شهادة إحدى الجارات التي قالت ما رأته «(...) من هون إيدها مجلوطة ع ميلة الشمال وعاليمين شوي، بس عجنابها معلّم القطعة عالقطعة بعصاية الشفاطة ـــ العصا التي وجدت مكسورة في مكان الجريمة ـــ (...) مسكها بشعرها وشدها لورا كتير كتير وبعد كان في شوي من شعرها ...». ليس شهادة واحدة، فهناك شهادة الجار، الذي له اسم معروف، والذي قال إنه «سمع صراخاً داخل المنزل، وعندما همّ بالدخول اعترضه الزوج، ولكن الصراخ لم يتوقف حتى نقلت رولا الى المستشفى». وشهادة والدتها ليلى؟ ماذا عنها؟ تلك التي تعيش معها في البيت نفسه والتي كانت تشهد على ضربها اليومي والتي قالت بأن «كرم عندما كان يعود معصّب كان يفش خلقه بعائلته». لماذا لم يؤخذ بشهادة هؤلاء؟ هل لأنهم من «الحي الذي تسكنه رولا؟»، كما ورد على لسان القاضي؟ لماذا هذه التعمية؟ وهل تكفي شهادات عابري السبيل «غير الشهود» لتبرئة الزوج؟ ولماذا لم يؤخذ باعتراف ابنتيها لحظة وقوع الجريمة؟
في الجزء الثالث من الأدلة الجنائية، هناك ما يسمى الأوراق والمستندات، تلك التي «طار منها تقرير طبيب الطوارئ الذي يقول إن رولا ضربت». والسؤال هنا: أين هو التقرير؟ وهل هو فعلاً مفقود من الملف الطبي؟ وماذا عن الطبيب؟ لماذا لم يستجوب؟ وهل اطّلع القاضي على رسم ابنة الضحية التي صورت أمها مرمية أرضاً، والوالد أمامها يحمل العصا؟ ماذا عن كل هذا؟ وماذا عن القرائن العارية من كل تلك الأسئلة؟ والأهم من كل ذلك، ماذا عن التقارير الطبية المتضاربة؟ ولماذا لم يؤخذ سوى «برأي 4 أطباء من بين 16 طبيباً من اللجان الطبية الخمس التي شكلت، وهي الآراء التي أجمعت على أن الوفاة طبيعية ولا وجود لكسر يثبت الضرب»؟ ولماذا تأخر القاضي في إعطاء الإشارة لتشريح الجثة، برغم طلب عائلتها ذلك منذ اليوم الأول للموت؟
هل تعرفون ما الذي نجم عن غياب تلك الأسئلة؟ «صدور قرينة البراءة عن قاضي الظن الذي من المفترض صدوره عن قاضي الحكم»، تتابع الدويري. وهذا إن عنى شيئاً فهو يعني «التعدي على العدالة، فقرار الظن يفترض إخضاع المتهم للمحاكمة للنظر في أمر إدانته أو تبرئته»، بحسب الدويري.
بعيداً عن أسئلة اللقاء، ثمة سؤال واحد ملحّ: لماذا فعل قاضي الظن كل هذا؟ لماذا تغاضى عن كل تلك الأسئلة المشروعة؟ قد يكون الجواب ما قالته بعض النساء الحاضرات أمس «لأنو ذكر». وقد لا يكون هذا هو الجواب، وحدها المحاكمة العادلة كانت ستوفر بعض الإجابات لو تسنى لها أن تحصل. لكن الأمر يقع في عقليتنا التقليدية وعاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا الثابتة عن العنف «الحلال» للمرأة. وهنا، ليس المطلوب فقط العمل على القوانين ـــ ومنها قانون حماية النساء من العنف الأسري المهمل في المجلس النيابي ـــ بل «الأجدى، ربما، العمل على تغيير هذه العقليات»، تقول عضو مكتب اللقاء الوطني ليندا مطر. ومن دون هذه الثنائية، سيكون «هناك بلا شك منال عاصي أخرى وقاتل آخر»، تختم.