ليس لبنان وحده من يشهد غرائب ومفارقات، مثل «أمر العمليات الغرامي» الذي بدأ قبل أيام بتشكيل حكومة الأخصام ــــ الأحبّة، وسط استمرار سيل الانتحاريين. سوريا من جهتها، وعلى طريقتها الخاصة، تبدو مسرحاً لمفارقات أخرى لا تقل غرابة وخطورة. فالانطباع العام أن غيوماً ما عادت تتلبّد في أجواء المنطقة التي تستظلّها أزمات دمشق. أولى نتائجها تعثر مفاوضات جنيف 2، وسط تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن ذلك.
نظريتان جاهزتان لتفسير الأمر. من جهة أولى كان البعض قد توقع هجرة طيور الحوار السوري لبحيرة ليمان، لحظة رؤيته لشعارات «الموت لأمريكا» تعود، ولو عابرة، إلى بعض الشوارع الإيرانية. ورغم مسارعة البعض إلى التخفيف من أهمية الظاهرة، وإلى وضعها في سياق تنافس سلطوي داخلي بحت، بين أجنحة النفوذ الإيراني، غير أن هذا لم يمنع المراقبين من تسجيل الانعكاس السلبي على المناخات السورية. كأن الأمور تجري بشكل تلقائي: انفتح الغرب على إيران، ففتحت أبواب جنيف السورية. توترت الأجواء بين واشنطن وطهران أو تكوّن انطباع بذلك، فعاد التعثر إلى أجواء دمشق.
نظرية التفسير الثانية تذهب في المقابل نحو الرياض. مفادها أن ليس صحيحاً ان التحوّل الكامل، أو ما يشبه الانقلاب على الذات، قد أنجز داخل العائلة السعودية. فالمؤشرات المتتالية، مثل قرار ملاحقة السعوديين الذين يقاتلون في الخارج، وانكفاء بندر، والتساهل في الملف اللبناني... كلها لا تعني أن السعودية تخلّت عن أوراقها السورية أو أنهت صراعها مع إيران. لا بل على العكس، فالتجاوب مع واشنطن في تلك الملفات الجانبية، لم يكن من باب الاستسلام. بل من أجل انتزاع موافقة أميركية على إعطاء مشروع الحسم العسكري في سوريا فرصة أخرى. فعادت قنوات التسليح الغربية تتواصل مع الداخل السوري، عشية التحضير لزيارة أوباما إلى الرياض.
في هذا السياق بالذات كانت مصادر سورية تتوقع قبل أكثر من عشرة ايام اندلاع معارك جديدة في منطقة درعا. بعدما تحدثت عن إقامة جسر جوي للمسلحين والسلاح الثقيل هناك عبر الأردن. مع تقدير لمروحة من الأهداف الممكنة للعملية: بين إقامة شريط حدودي، وتكرار افكار «بنغازي السورية» القديمة في حد أدنى، وبين التقدم أكثر للضغط مجدداً على دمشق، كحدّ أكثر طموحاً. غير أن سلسلة المفارقات السورية تبدأ هنا تحديداً، ومن تلك الجهة الحدودية من الجغرافيا السورية بالذات. مفارقات يمكن عرضها كالتالي:
أولاً، فيما الحشود المسلحة المعارضة تتحضّر في جوار درعا، كانت السلطات السورية تعمل على فتح معبر حدودي جديد مع الأردن، عبر السويداء المجاورة. الخطوة السورية الرسمية قابلتها سلطات عمان بفتور وعدم ترحيب. وهو ما تردد أنه موقف اردني مفروض بإيعاز سعودي. كأن المطلوب من جهة الرياض حصر عمليات الانتقال بين المنطقتين عبر بوابة الرمتا الخاضعة لموازين سكانية وطائفية معروفة. فيما الطريق عبر الجبل متحررة من تلك الاعتبارات بالذات. حاول الأردنيون إجهاض الخطوة السورية كلياً، لكن انطلاقها بشكل بطيء متعثر بدأ يعيد الحسابات الأردنية، كما الواقع الميداني لتلك المنطقة الحساسة.
ثانياً، وفيما السعودية تعلن قرارها ملاحقة «جهادييها» في الخارج، وفيما الجسر الجوي يعدّ العدة لمعركة درعا، كانت السلطات السورية تلقي القبض على خلايا جهادية في منطقة القنيطرة. وذلك في انتقال مستغرب لخارطة التكفيريين، للمرة الأولى منذ اندلاع الأحداث في سوريا. علماً أن وصول هؤلاء إلى هذه المنطقة الحساسة بمفهوم خارطة الشرق الأوسط، أطلق أكثر من جرس إنذار.
ثالثاً، وفي شكل متزامن مع خطوة المعبر وهشاشة الأوضاع الأمنية ودقتها، بدأ الكلام عن تغييرات في التقسيم الإداري لكل المنطقة الجنوبية من سوريا، والممتدة من القنيطرة غرباً إلى السويداء شرقاً، بما فيها درعا نفسها. تماماً كما حصل في حمص قبل أشهر. وفي سياق الحديث عن إعادة النظر الإجرائية تلك، كانت دمشق في هذه الظروف بالذات، تقر اعتمادات مالية خاصة لمشاريع إنمائية في السويداء. كما بدأ الحديث عن سلسلة من التسهيلات الاستثمارية لهذه المنطقة.
أكثر من ذلك، يتحدث بعض العارفين عن أسرار استثمارية مستغربة في هذه البقعة من سوريا، رغم وقوعها بين أكثر من نار وصراع. مع شيوع كلام عن شراء مستثمرين كبار لمساحات كبيرة من الأراضي هناك. حتى أن أسماء سياسيين لبنانيين، من كبار المعارضين للحكم في دمشق، تذكر من بين شراة الأراضي هناك، على خلفية الاستثمار فيها في مرحلة لاحقة.
رابعاً، إصرار السلطات السورية في ظل هذه المناخات بالذات، على إعطاء مؤشرات أخرى عدة حول استمرار عملها الحكومي والدولتي في الداخل بشكل طبيعي. ففيما الأنظار الدبلوماسية مشدودة إلى ما بعد تعثر جنيف، والأجواء العسكرية مترقّبة لجبهة درعا، تابعت السلطات السورية عملية استيعاب المسلحين المعارضين، ضمن المناطق التي تشملها مبادرة «المصالحة الوطنية». وذلك بضمّ هؤلاء في إطار لجان الدفاع الوطني. حتى أن المستوعبين يحتفظون بأسلحتهم الخفيفة، مع انتقالهم من ضفة الخارجين عن النظام إلى ضفة المنخرطين في آلياته الأمنية.
وفي سياق مؤشرات التطبيع نفسها، شهدت دمشق في الأيام الماضية ما يشبه حملة مكافحة لفساد الأزمة وشكلاً من أشكال التشهير بأثرياء الحرب. ففي خطوة لافتة بدأ الإعلان تباعاً عن أسماء المستفيدين من قروض مصرفية كبيرة، أعطيت بالليرة السورية، وتحوم حولها اتهامات بالمضاربة على العملة الوطنية نفسها، في ظروف التقلب السريع لسعر صرف الليرة. وصولاً حتى إلى كشف أدوار مشبوهة لرجال أعمال سوريين من رتبة المليارديرية، أحدهم كان قريباً من السلطات السورية، قبل أن يبتعد عنها بعد اندلاع الأزمة، ويتحول أخيراً شريكاً لجبهة «النصرة» في استثمار نفط دير الزور. علماً أن الثري السوري مقيم في أوروبا، وشركاءه الجهاديين مصنفون على لوائح الإرهاب الغربية!
كأن أشياء كثيرة وكبيرة تطبخ على النار السورية. وكأن نضوج بعضها بات وشيكاً.